وقفة مع بيت شعر

ثقافة 2019/12/03
...

د. حسين القاصد
 
لم يعد تعريف الشعر بأنه كلامٌ موزونٌ مقفى صالحاً ولا حتى صائباً، وحتى التعريف المتطور عنه بأنه كلامٌ موزونٌ مقفى له معنى، هذا، أيضاً لم يعد اشتراطاً شعرياً؛ وإذا انهارت القافية في ثورة الشعر الحر (التفعيلة) على قصيدة العمود، وأحرقت نصف التعريف الاشتراطي الذي ذكرناه، فإنَّ ظهور قصيدة النثر أطلقت رصاصة الرحمة على التعريف الاشتراطي بأكمله بعد أنْ تخلت عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي وقوافيه.
نعم، ليس كل كلام موزون مقفى له معنى، ليس له أن يكون شعراً، فألفية ابن مالك كلها معنى وهي من الكلام الموزون لكنها ليست شعراً؛ إذاً ما هو الشعر؟
أرى أنَّ الشعر هو جمرة اللحظة وصرختها وتوهجها، ولا يمكن تجريده من أسباب قوله، وتلك الأسباب هي المضمر الذي يشغل تفكير النقد الثقافي، ينطلق الشعر من جمرة لحظته، ثم يتوهج عند كل رياح تبثها روح التلقي لينتقل من أسباب القول إلى موافقة الاحتياج والاستحضار.
أبيات شعرية كثيرة تستدعي التوقف عندها والعودة إلى صالة ولادتها، لنقارن بين حاجة ولادتها وحاجة استحضارها وإلقائها؛ واليوم سأقف عند بيت شعر فارغ من الشعر تماماً، إذا جردناه من لحظة ولادته وظروفها، فهو كلام مرصوف، بل هو مجرد خبر لا يعني المتلقي الذي لا يعرف شيئاً عن أسباب نزوله؛ والبيت هو للشاعر العراقي أجود مجبل، إذ يقول:
قال لي إني سآتي دائماً
قادماً من ساحة الاندلس !
أول سؤال يواجهنا هنا، هو أين الشعر؟ لكن بعد معرفة أسباب نزوله، ووقت نزوله، وخصوصية ذلك الذي يأتي من ساحة الأندلس سنعرف أنَّ أبيات قصيدة العمود مثل حبات المسبحة، لا تستقيم إذا انفرطت!.
هذا البيت من قصيدة للشاعر أجود مجبل نشرها في جريدة طريق الشعب، العدد 16، في الاول من أيلول 2019، يرثي فيها الأمين العام لاتحاد الأدباء الشاعر إبراهيم الخياط رحمه الله، والبيت هو ختام القصيدة؛ ترى هل وصلنا لغايته؟ نعم، نوشك أنْ نصل، لأنَّ ابراهيم الخياط يأتي يومياً من مقر الحزب الشيوعي في ساحة الأندلس إلى اتحاد الأدباء؛ لذلك أقول ما أقساه من بيت شعر، حين عرفنا سبب نزوله وظروف ولادته؛ أجود سينتظر إبراهيم دائماً قادماً من ساحة الاندلس! لكنه لن يأتي بعد لحظة كتابة هذا البيت الذي ختم القصيدة وختم حكاية مجيء الخياط من تلك الساحة، ليبقى هذا البيت عزاءً لكل من ينتظر إبراهيم الخياط كل صباح أنْ يدخل الاتحاد قادماً من ساحة الأندلس.