صناعةُ البديل

ثقافة 2019/12/04
...

محمّد صابر عبيد
ما هو البديل؟ ومتى يفكّر الإنسان بالبديل؟ وما هي العلاقة بين الأصيل والبديل في ظلّ ظروف مُوجِبة تبدّد الأصيل وتستدعي البحث عن بديل؟، وهل يعوّض البديل عن الأصيل تعويضاً كاملاً متكاملاً بحيث تبدو الأمور في ظلّ غياب الأصيل وحضور البديل وكأنّها هي هي بلا أدنى تغيير
تستدعي لفظةُ “البديل” في التصوّر الذهنيّ للحضور الطبيعيّ المقابلَ الدلاليَّ لها وهي لفظة “الأصيل” بحكم وجودِ جدلٍ دلاليٍّ بينهما، ففي حالة حضور الأصيل ينتفي وجود البديل إذ لا حاجة ضروريّة له فالأصيل بطبيعته حاجبٌ للبديل، لأنّ الضوء الدلاليّ المنبعث من قوّة تأثير الأصيل في المجال الذي يعمل فيه لا يسمح بوجود بديل/بدائل داخل هذا المجال، وفي حالة غياب هذا الضوء تقتضي الضرورةُ حضورَ ضوءٍ بديلٍ بوسعه التعويض عن غياب ضوء الأصيل، بحيث تصبح للبديل قيمة حضوريّة تملأ الفراغ الذي يتركه غياب الضوء الأصيل ليكون له شأن خاصّ، يقارن دائماً بالضوء الأصيل الغائب وتكتمل صورته في المجال ضمن ما يسهم فيه
من تأثير.
الشأن الذي يكتسبه “البديل” عند غياب “الأصيل” يجعل منه أصلاً على نحوٍ ما إذ سيكون هو الأوحد الحاضر في مجال العمل، وينبغي على هذا النحو إغفال كلّ ما يتعلّق بالأصيل من مفهوم وتاريخ وإرث لتقتصر الرؤية حول “البديل” فقط، بوصفه المفهوم العامل في المجال ولا شيء يضاهيه أو يزاحمه سوى فعاليّة المضاهاة الممكنة مع الأصيل الغائب، لأجل أن يكتسب هذا البديلُ القيمةَ المطلوبةَ التي يمكن أن يثق بها المجتمع المعنيّ بأدائها وممارستها وما يمكن أن تُسفر عنه
 من نتائج، 
تعدّ صناعةُ البديل واحدةً من أهم الصناعات الحضاريّة ذات الطبيعة الديمقراطية المناهضة للمركزية والدكتاتورية، فعلى الرغم من احترامنا للأصيل في أنّه قدّم درساً حضارياً بالغ الأهمية في مجال عمله وحقّق إنجازات قلّ نظيرها، لكنّ هذا الأصيل لا بدّ له من بديل يعمل في ظلّ الأصيل وتحت رعايته كي يضمن استمرار المنجز وتواصله وديناميته على نحو فعّال، أمّا حينما يغيب الأصيل لأيّ سبب كان بلا بديل يقوم مقامه فإنّ الأصيل يموت ويموت منجزه ويطويه النسيان، لذا على فكر الأصيل أن يعمل على صناعة بديل/بدائل يهزم بها فكرة الموت وتدعم فكرة استمرارية الحياة، وإذا ما أعتقد الأصيل أنّه لا بديل له فهو ليس أصيلاً حتماً وسينتهي إلى قبوٍ من النسيان بلا قرار، في حين يعمل الأصيل الذكي المتحضّر دائماً على صناعة بديل أو أكثر له في حقل نشاطه وإنتاجه وإبداعه، لأجل أن يرى نفسه في بديل كفوء يرتفع إلى درجة الأصيل بحيث يكون بوسعه قيادة دفّة المسيرة والاستمرار فيها بلا توقّف أو تلكؤ، وستكون له دالّة على قيامه هو الآخر بحماس أكبر على التفكير في البديل من بداية عمله في موقع الأصيل كي تدوم دائرة العمل والإنتاج والإبداع.
في حالات معيّنة يحضر الأصيل والبديل معاً في منظومة عمل واحدة كما هي الحال مثلاً في مباريات كرة القدم، حين ينزل الفريق الأصيل إلى الملعب بكامل نجومه الأصلاء وثمّة “بدلاء/احتياط” على دكّة تسمّى “دكّة الاحتياط”، يكونون على أهبة الاستعداد للتعويض عن الأصلاء في أيّة لحظة موجِبة في أثناء سير المباراة، إذا ما تعرّض أحد اللاعبين الأصلاء لحادث يستدعي إخراجه من الملعب، أو قلّتْ كفاءته بحسب تقديرات المدرّب، أو لتغيير في مسار خطّة اللعب كي يحاول فيه المدرّب تغيير النتيجة لصالح فريقه، أو لأيّ سبب آخر يرى المدرّب أنه حان وقت التغيير، وثمة تغييرات من هذا النوع حسمت مباريات كبيرة حين يشتغل ذكاء المدرّب الميداني على استدعاء البديل في الوقت المناسب، بما يجعل المدرّب يجري موازنة بين أداء الأصيل في أرض الملعب وتوقّع أداء البديل في حالة الاستبدال، على نحو يفترض فيه أن يكون البديل مؤهلاً تمام التأهل وكفوءاً تمام الكفاءة ليقوم بدوره على نحو يفوق الأصيل الذي ترك الساحة
 لصالح البديل.
من هنا قد يتفوّق البديل على الأصيل ويزيحه حين يُثبت في أول حالة استبدال أنّه يتمتّع بإمكانات تتفوّق على الأصيل، فيتحوّل الأصيل إلى بديل ويصبح البديل أصيلاً، لتتغير مواقع المركز والهامش، أو الأساس والثانوي، في معادلة جديدة تضع الأصيل في موقف محرج وقابل للإزاحة في أيّ وقت، ففي الحالة الطبيعية يكون الأصيل في الصفّ الأوّل والبديل في الصفّ الثاني ليأخذ كلّ منهما صفات وحساسية الصفّ الذي هو فيه، ويحاول الأصيل الحفاظ على صفاته وحساسيته في موقع الصفّ الأوّل مثلما يسعى البديل إلى تجاوز حدود الصفّ الثاني وبلوغ طبقة الصفّ الأوّل، على نحو يعكس نوعاً من الصراع الخفيّ بينهما ينتهي دائماً إمّا بمواصلة هيمنة الأصيل على هويّة الصراع، أو خسارة الأصيل لموقعه وتنازله عن صفّه لصالح البديل حين يتقدّم إلى موقع الصفّ الأوّل ويشغله بجدارة على حساب غياب الأصيل وتخلّفه إلى
موقع البديل.
صناعة البديل في منطقة الأصيل قد تصطدم بجانب أخلاقيّ لا يفهم الرؤية المنطقية العامة في مجال الصراع التقليدي بين الأصيل والبديل، فالأصيل الذي يدرك أنّه لا يمكنه الاستغناء عن البديل بوصفه العمق الستراتيجي واللوجستي له، يحاول العناية به ودعمه ليكون جاهزاً للانتقال إلى الموقع الأوّل “موقع الأصيل” حين يُحال الأصيل على التقاعد ويعطي ما عنده، وعلى البديل الذي يتحوّل إلى أصيل هنا أن يحافظ على ما أنجزه سلفه الأصيل ويتسلّح به ويحترمه في طريق مواصلة الإنجاز وتطويره، لا أن ينقلب عليه ويسعى إلى محو ذكراه ومنجزه في الفضاء الأصيل ويقدّم نفسه بوصفه أصيلاً جديداً متجاوِزاً، يعتقد فيه أنّ محاولة إلغاء ما أنجزه “الأصيل/الأستاذ” يصبّ في صالحه ويوسّع من حضوره الراهن على حساب ماضٍ مندثرٍ لم تعد له قيمة. ينبغي أن يبقى الأصيل وقد غادر موقع الصفّ الأوّل لصالح البديل الذي أسهم في صنعه “أيقونةً” ودليلَ عملٍ ونبراساً يضيء درب البديل في دائرة من التواصل لا تنفد ولا تنتهي.