رواية انعدام الحياة

ثقافة 2019/12/07
...

هدية حسين
ماذا سيحدث حين لا يبقى أي شيء؟ ذلك هو السؤال الذي تطرحه رواية (بلاد الأشياء الأخيرة) للأمريكي بول أوستر، التي تعد من بين عشر روايات سوداوية في الأدب العالمي، من بينها المسخ لفرانز كافكا، و1984 لجورج أورويل، والأبله لديستويفسكي، وفئران ورجال لشتاينبك.
 
إنها رواية الشخصيات التي لا مستقبل لها، تعيش في قاع مدينة ليس لها سطح ولا سلطة الا سلطة العصابات، لا مدارس فيها ولا سينمات ولا أحد يعرف كم سيبقى على قيد الحياة، عالم معزول غير العالم، بلا حاضر ولا غد، كل ما عليك حين تكون في تلك المدينة، ومثلها مدن البلاد، أن تبحث عن طعام لكي تعيش، حتى إن كان الحصول على الطعام يتم بالسرقة أو بالإذلال أو بالقتل، أن تعيش يجب أن تقاوم بكل شراسة، أن تمتهن القتل من دون أن يرف لك جفن، المهن غير الشرعية في هذه البلاد تطغى على الحياة، الشر هو المهيمن طالما انتهى عصر الأخلاقيات والقيم، يأتي معلناً عن نفسه من دون مواربة، تراه بعينيك وتلمسه بيديك، وكل الأشياء تتداعى.. هل هذه نبوءة لما سيكون عليه العالم مستقبلاً، وربما تحديداً في أمريكا؟ لا بد أن يكون هذا العالم في هذه الرواية هو أمريكا التي تتخلى شيئاً فشيئاً عن قيمها.
كتب بول أوستر روايته هذه على شكل رسالة طويلة من امرأة تدعى آنا بلوم الى صديقها الذي هجرته من أجل البحث عن أخيها الصحفي المفقود الذي انقطعت أخباره، وتبدأ بذكر الأشياء التي نراها أو نعيشها ولكنها تضمحل وتختفي بفعل الزمن، مثل الطقس الذي يتغير، والشارع الذي كنت قد اجتزته يوماً ولم يعد موجوداً، ثم تدخل شيئاً فشيئاً الى تفاصيل الحياة، الى ناس المدينة ومتاجرها وعاداتها والسرقات اليومية التي تحدث كشيء اعتيادي من أجل الحصول على الطعام الى الحد الذي لم تعد فيه تلك السرقات جرائم يحاسب عليها القانون حيث لا قانون ينظم الحياة في هذه البلاد، وهذا يعني الفقر المدقع الذي يخيم على أهل المدينة، والفوضى التي تعيشها في ظل تفشي الرشوة والغش وانعدام الأمان، فالموت متربص بك في أية زاوية من قبل العصابات، بل حتى وأنت في شقة مستأجرة يمكن أن يدخل عليك أحد ما ويهددك فتخرج الى العراء لتكون الشقة من ضمن ممتلكاته لأنك لا تملك عقد إيجار.
ثمة شيء آخر يعيش عليه البعض، وهو ابتكار الأحلام، وحتى هذه الأحلام تتعلق بالموت، فيختارون شكل موتهم الغريب، وهؤلاء يسمون بالعدّائين، يجتمع عدد منهم ويركضون من دون توقف حتى يسقطون ميتين، بينما يختار البعض الموت الرحيم بالحقنة المميتة، أو ينضمون الى نادي الاغتيال حيث يقوم شخص ما راغب بالموت يدفع مبلغاً من المال لاغتياله، أما الفقراء فإنهم يموتون جوعا في الشوارع أو على الأرصفة كل يوم، وكل يوم تأتي سيارات البلدية لتحمل الجثث بعد أن يقوم الكناسون بتجريدهم من مقتنياتهم وهي على العموم ملابس رثة أو أحذية متهرئة.
تكتب آنا بلوم في رسالتها الطويلة قائلة (الحياة كما نعهدها انتهت، ولا أحد قادر على الرغم من ذلك على إدراك ما حل محلها) ص27.. (وكل يوم تسمع انفجارات في الشوارع وكأن عمارة تسقط في مكان بعيد عنك، أو كأنَّ رصيفاً ينهار لكنك لا ترى ذلك البتة، ومهما تناهت الى سمعك أصوات كهذه وبشكل كثيف فإنَّ مصدرها يبقى خفياً) ص29.. كل شيء في هذه المدينة خارج الاحتمالات، لا أحد يعرف ماذا سيحل به بعد ساعة، حتى الطقس لا يمكن أن يتنبأ به أحد لأنَّ السماء تحكمها الصدفة.
وبعد أنْ تسرد الكثير من تفاصيل الحياة في تلك المدينة، تدخل في تفاصيل الحياة التي عاشتها هناك منذ الأيام الأولى لوصولها، حيث اضطرت للنوم في العراء وجاعت ولم تجد عملاً سوى الكناسة، وكادت أن تُغتصب من قبل رجال العصابات، واضطرت أيضاً لسرقة الطعام، عاشت الوحدة القاتلة ولم يكن لها أصدقاء أو أحد تتحدث إليه، لكنَّ حياتها تلك تغيرت بعد أن التقت بمحض مصادفة بامرأة تدعى إيزابيل، تعمل أجيرة لدى شخص يدعى فرديناند، كانت تجر عربتها بصعوبة بالغة حين رأتها آنا بلوم، وكادت تموت تحت أقدام العدائين لولا أن بلوم أنقذتها في اللحظات الأخيرة، فشعرت إيزابيل بالامتنان لها، كانت متعبة جداً فرافقتها وتعرفت على الكثير من حياتها خلال الثلاث ساعات التي وصلت بعدها الى البيت، وأخيراً اقترحت عليها إيزابيل أنْ تعيش معها في البيت الذي يضمها وزوجها العاطل عن العمل والمدمن على الشراب.. ولأنَّ آنا بلوم لا تملك مكاناً تأوي إليه فقد وافقت على الفور، وعاش الثلاثة في غرفة واحدة للنوم، وتشاركت آنا مع إيزابيل في أعباء البيت وفي البحث لالتقاط الأشياء من الشوارع والأزقة المقفرة، وحينما مرضت إيزابيل صار على آنا أنْ تقوم بكل شيء، ليس هذا ما أرهقها بل المعاملة السيئة من فرديناند، حتى جاءت إحدى الليالي حاول فيه اغتصابها، فما كان منها إلا أنْ تنشب أظافرها في رقبته وكاد يموت بين يديها، ولما أفلتته وانسحب الى زاويته، خرجت هي الى ظلام الليل، وظلت تمشي أكثر من ساعتين ثم تعود مضطرة لكي لا تقع بأيدي العصابات، وعند الصباح بعد الإفطار اكتشفت هي وإيزابيل أنَّ فرديناند ميت.. ما أدهش آنا أنَّ إيزابيل لم تُبدِ أي انفعالات إزاء موته، فخطر لآنا أنَّ ثمة شيئاً حدث أثناء خروجثها الى الشوارع، إذ ربما تكون إيزابيل لم تكن نائمة وأحست بفرديناند وهو يحاول اغتصابها فقامت بقتله.
بعد مدة ليست طويلة يشتد المرض على إيزابيل فتموت، ويبقى البيت لآنا، لكنها لم تهنأ فيه إذ يدخل عليها ثلاثة رجال ويخرجونها منه، لم تأخذ معها سوى متعلقاتها الشخصيَّة وهي قليلة، وتفكر بطريقة ما للخروج من البلاد، لكنَّ الطرق كلها غير نافذة أو بيد الشرطة المتواطئة مع العصابات، تزداد محاولاتها المحفوفة بالمخاطر، ولم تنجح حتى بمساعدة الآخرين، أحداث كثيرة ومخاطر عديدة تحدث لها ولم تعثر على شقيقها في هذه المتاهة التي صنعها بول أوستر حتى آخر صفحات الرواية التي صدرت عن دار الآداب عام 1993 .
في بلاد الأشياء الأخيرة، رواية تقف على حافة مسننة لانهيار العالم، فعندما يفقد الإنسان ضميره وحسه الإنساني فلا شيء مؤكداً بأنَّ العالم يقف بثبات ليعيد حساباته، لقد فات الأوان.