المثقف الخائن

ثقافة 2019/12/11
...

علي حسن الفواز
 
قد تبدو هذه التسمية قاسية، وأنّ توصيفها قريب من الرمزيّة، لكن مدلولها يفترض مقاربة نقديّة مع طبيعة انموذج هذا «المثقف» الذي يمارس وظيفته عبر اللغة بتجريد فاضح، أو عبر الايديولوجيا بنوع من العصاب، أو عبر الطائفية بنوع من الكراهية، وهذا ما يجعل هذا المثقف متورّطا في احكام أو في مواقف لايمكن تفسيرها العميق، أو النسقي إلّا بالرجوع الى تلك التمثلات اللاواعية..
ليس عسيراً التعرّف على هذا المثقف في يومياتنا العربية، فأغلب نماذجه هم من «الانتهازيين» ومن الذين تركوا النضال القديم، واليسار القديم، وصاروا يجدون في لعبة الاسترخاء مُتكأً لممارسة وظيفة الكاتب الجاهز، فهو الشارح والمُفسِّر والموالي، وهي ولاءات ووظائف ومهام لا تحتاج الى قاموس بلاغي، قدر حاجتها الى تمارين نفسية وسياسية معروفة، ومصطلحات تدخل في حسابات الربح دون
 الخسارة..
الحديث عن «الخيانة» في السياق الثقافي يفترض توصيفا وتحديدا للمرجعيات الثقافية والايديولوجية، فالخائن عند السيّاب، هو غير الخائن عند الماغوط، والخائن عند أمل دنقل هو غير الخائن عند احمد عبد المعطي حجازي، والخائن التاريخي غير الخائن السردي، واحسب أنّ هذه الثنائيات تظل افتراضية عبر سياق ما ترسمه وجهات النظر، او ما يُحيله «التبئير» الى معرفة تعاطيها مع المقدّس والرمزي والوطني، وهي قضايا تجعل «المُفكّر فيها» غير «المسكوت عنها» وأن ما يتشكّل من بنيات ذهنية، ومن صور ستكتسب نوعا من التهويم الداخلي، والذي يجعل هذا المثقف بصفته الانثربولوجية يدافع عنها ويوالي خطابها، لأنّها ستدخل في كشكول قيمه الجديدة الطاردة لقيمه القديمة، أو في سياق مصالحه التي تخضع الى سياسات هذه الجريدة أو المجلة أو الفضائية أو تلك..
 
المثقف {الخائن}
 والتحولات العجولة..
من أكثر مؤشرات بروز هذه الظاهرة هي التحول الغرائبي في عديد مواقف «المثقفين العرب» والعراقيين منهم بشكل خاص، إذ نزع الكثير منهم معطفه الايديولوجي والاجتماعي والسياسي، والخضوع الى ما يشبه عملية «التجميل» الاضطرارية والعجولة، لممارسة الدور الضد، أو الاندفاع في لعبة ثقافويّة تقوم على اجتراح مقاربات تاريخية أو نقدية لاتملك سندا معرفيا، سوى أنّها مع السائد الجماعوي، أو مع القوة الرمزية التي تعزز حاجة الاسترخاء والاشباع، بعيدا عن هواجس ما تركه اليسار القديم من أوهام ومن نضالات لا تجلب سوى الفقر والخوف والملاحقة
 والتكفير..
المثقف المستريح، أو المثقف الناعم، والذي يحظى بألمعيّة الحضور الى الندوات والمهرجانات ومعارض الكتب، قد تكون هي الصورة أو القناع المقابل لذلك المثقف الذي شرعن خيانته الرمزية، وقبل بالوظائف الجديدة، ودون أدنى عقدة من ضمير
أو من ماضٍ قد يلاحقه هنا أو هناك، لكن البعض من «الهؤلاء» قد اوغل في تطرفه وفي كراهيته للماضي، فصار يعيد انتاج وظيفة «رجل الأمن القديم» الذي تطارده أشباح المناضلين، فلا يطمئن لوجودهم في الجوار، ولا لكتاباتهم التي تعني فضائحه، فيمارس دور مراقب الأفكار، فيتلصص على يومياتهم واوراقهم، وربما يدعو الى قطع ارزاقهم في عملهم، وتحت اسباب شتى، وهذا ما نجده عند البعض وهم يكتبون عن الشأن العراقي في هذا المطبوع العربي أو ذاك، فلا نجد لهم رأيا ابداعيا أو موقفا اخلاقيا سوى ممارسة التهييج والكراهية واثارة الفتن، وكأنّ  وظيفتهم في الخيانة الثقافية تنحصر في هذه الادوار
البائسة..
المثقف وصناعة
 حوار الأفكار
دائما استعيد الراحل سعد محمد رحيم بوصفه صانع الافكار المختلفة، والمحرّض على قبول الاختلاف، والثقة بأنّ حوار الافكار هو القوة التي تصنع المعرفة، وتنزع عنها رائحة البارود، وعُقد العصاب 
والتكفير. إزاء أنموذج سعد محمد رحيم يبرز أنموذج «المثقف الخياني»، وهي تسمية جائزة -هنا- لما لوظيفتها من تداعيات سلبية وخطيرة، فكثيرا ما تؤدي الى الطرد والعزل والنبذ والمنع من السفر، وصولا الى التحريض على القتل، والى تبني مواقف فاضحة ضد الاجتماع العراقي سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا، لاسيما في اللحظات التاريخية العاصفة، وهي للأسف قاسية ومتكررة في حياتنا
 العراقية.. لعبة الخيانة تلك، قد تكون نوعا من الاستئجار الثقافي، أو التبرع بمواقف مقابل ثمن، ولذلك اسباب متعددة، فبعضها يدخل في حساب الضعف والضعة، وبعضها يدخل في حساب المصالح والمغانم والأعطيات، وبعضها يدخل في حساب الكراهية والحقد والحسد، وبعضها يدخل في باب التعبير عن الهزيمة الداخلية، والبحث عن تعويضات واشباعات ايهامية، وبعضها الآخر يدخل في حساب الخنادق الصراعية السياسية والطائفية والقومية، وهي للاسف من أكثر الحلقات مدعاة لتعرية هذا الأنموذج الذي تحتضنه مؤسسات ومراكز تقوم وظائفها على تلك الصراعات
الدامية..
إنّ مسؤولية المثقف هي صناعة الافكار، وايجاد السياقات الصالحة لتداولها، والقبول بما هو مغاير ومختلف، والمثقف الذي لا يؤنسن أفكاره ولا يقبل بالآخر، وبما تحوزه من طاقة اخلاقية عالية وفاعلة سيكون شبيها بالجنرال المتوحّش والفاسد في الحرب، فهو يُهيّج الجميع على القتل، ولا تعنيه فكرة الانتصار إلّا بمقدار ما تتسق مع ذلك الهيجان، وهو ماكرّسه غوبلز في الحرب النازية، أو ما فرضه المكارثيون في تخوينهم الدوغمائي للمثقفين الاخرين، أو مارسه فقهاء الظلام الدواعش في قتلهم لكلّ ما هو
مختلف.