عندما وقف أمير ناصر متخشّباً مثل نورس ليحرس الحروف

ثقافة 2019/12/15
...

 أحمد الشطري

 
 
العنوان وفقا للتنظيرات الادبية الحديثة يمثل نصا موازيا، او عتبة، او ثريا للنص، يمكن للقارئ من خلالها ان يستشف شيئا ما عن المحتوى، وقد اولت الدراسات الحديثة اهمية فائقة للعنوان بوصفه عنصرا تعريفيا، او اشهاريا مضافا الى ما ينطوي عليه من وظائف اخرى، وقد تأثر ادبنا الحديث بهذه الطروحات المعاصرة حول عنونة النص، واصبح يوليها اهمية بالغة سواء على الصعيد الانشائي، او الاشهاري، او النقدي، وباتت تخصص العديد من الدرسات للبحث في بيان واستكناه اثر العنونة على النص ولدى المتلقي.
 واذا تفحصنا ادبنا القديم وخاصة الشعر منه، فسنجد انه لم يكن يولي العنوانات اية اهمية تذكر، وما نجده من عنونة للقصائد في دواوين الشعراء القدماء انما هو من اختيار المحقق، او الجامع لتلك القصائد، وهي لا تعدو ان تكون اختيارا للشطر الاول من القصيدة، او اي شطر بارز منها او للمناسبة التي قيلت فيها. 
ونظرا لأهمية العنوان في اضاءة الطريق المؤدي الى الدخول الى فضاء النص، لا بدّ لنا ونحن نشرع بقراءة المجموعة الشعرية للشاعر أمير ناصر والمعنونة بـ (حروف اسمكِ)، ان نقف عند هذه الثريا باحثين عمّا يمكن ان تضيئه لنا من محتوياتها، فهذه الكلمات التي تشكل نصف جملة باحثة عن مسند او مسند اليه؛ لكي تفصح عن كنهها، تفتح امامنا خيارات متعددة؛ للبحث عما يمكن لنا ان نكمل به هذه الجملة، ولذا فإنّ أحد أهم مغريات هذه العنونة، انها تبقي التساؤل منفتحا على جملة من الاحتمالات التي تدعو القارئ للبحث عنها في فضاءات نصوص المجموعة، وعند تفحصنا لمحتويات المجموعة سنجد ان عنوانها هو ذاته عنوان احد النصوص، ومن ثمّ فان تساؤلا ما سيبرز امامنا مفاده: هل ستتكشف لنا من خلال هذا النص القصير الدلالة الكاملة لذلك العنوان الذي اصبح عتبة للنصوص كلها؟ 
(لا وحشة مع اسمك/ فرحٌ بكِ. وهذه ضحكتك/ أحكم عليها قبضتي/ كما لو شحاذ ضمن عشاء ليلة باردة/ ما أسعدني) ص69.
والواقع ان هذا النص الذي اتخذ من هذا العنوان عتبة له، لم يعطنا سوى اشارة ضئيلة لما يمكن ان يخلقه (الاسم) بكامل حروفه من اجواء ألفة وفرح في نفس الشاعر. ومن هنا يصبح لنا شبه مؤكد ان عنونة هذا النص هي مجرد ايهام بخصوصيته، اذ اننا سنكتشف ونحن نقرأ نصوص المجموعة ان (نصف الجملة) هذه لها حضور في العديد من النصوص، بل ان احد النصوص سيفصح عن بعض التفصيل الحرفي قبل ان يستدرك الشاعر ويضعنا في فراغ المحذوف (قالت اريد ان انام/ ضع يدك هنا/... أين هنا/: الم تقل انك زورقي/ وأنا ماؤك/ ... أجل قلتها/..../ ضعها على همزتي/.../ سأفعل) ص55. وبالاستغراق في قراءة باقي النصوص سنعثر على عدة اشارات تنبئ بعمومية هذه (الثريا) وليس خصوصيتها: (يحصل ان أعود بطحالب خضراء/ أظنها حروف اسمكِ) ص47، وفي نص آخر يعود للتأكيد على ذلك الحرف الذي اباح لنا به (وأنت لست رجلا/ مالم تقف متخشبا/ مثل نورس/ - مات من عطش وضلّ طريقه للمياه/ على ألفها،/ تحرس حروفها بعينين من حجر) ص42، هذه الصورة الباهرة التي تعكس لنا مدى تعلق الشاعر بتلك الحروف وهو يطلب من نفسه حراستها بعينين من حجر كناية عن اليقظة الدائمة.
ومن نص يرثي به ابنه: (أمك تحبك/ تجلس امام مدرستك/ تحفر بعينيها التعبتين/ على جدرانها/ حروف اسمك) ص38، إذن هذه الحروف التي يحرسها الشاعر لم تكن مختصّة بالحبيبة، بل هي تشمل كلّ معشوق.
ومن هنا يتضح لنا ان تجليات العنوان لا تختص بذلك النص، بل انه يتجلى في اغلب نصوص المجموعة ان لم يكن كلها. واذا كان الشاعر قد حرص ان يجعل باب اجتراح مسند او مسند اليه لنصف الجملة هذه مواربا، دون ان يلقي لنا ولو بقبس نستضيء به، فإنه في ذات الوقت لم يترك الظلمة تضللنا عن البحث في مدراج التأويل. ويبدو ان تعامل الشاعر مع الحروف هو اشبه ما يكون بتعامل المتصوفة معها، فهو يعطي تلك الحروف دلالات واشكالا يمكن ان تعكس قيمتها واهميتها في ذاته: ( معي قلب احمر/ قلب قطن احمر/ مضاء بحرفك) 57.   
(شفتاك (حابسي) وشعرك عناقيد عنب/ كم يشدهني خمرك وفاكهتك/ وأنا ساهم أقلّب حروف اسمك)ص17.
لقد حول امير ناصر تلك الحروف الى اشياء قابلة للمس، والحركة، والاشتعال، والتوهّج، اذن هي لم تكن حروفا محضة، وانما هي ذوات لها فاعليتها القادرة على خلق حالة من الاتصال 
الروحي بالحبيب، او ان لكل واحد منها هيأته التي تجسد بعضا من وجه الحبيب، او جسده، وهذا هو عين ما يراه المتصوفة بالجانب الشكلي او الرمزي للحروف.
ولم يبتعد أمير ناصر عن أسلوبه الذي تميّز به في سالف مجموعاته، فهو كثيرا ما يلجأ الى لغة الحوار، و تقنية الحذف، اذ يجعل من الفراغات فضاء ممتلأ باسراب من الكلمات التي تتوارى خلف النقاط، تاركة خيال القارئ يبحث عن الاشكال والالوان التي يمكن لها ان تحل محل تلك النقاط في ذلك الفراغ المنفتح على العديد من الاحتمالات.
إنّ بساطة المفردة وسهولة اللغة لم تمنع نصوص امير ناصر من الارتقاء بصورها وعمق محمولاتها الى مسافات شاهقة من الابداع، وهي لاتنفك تزرع الدهشة في نفس المتلقي في كل مقطع من مقاطعها الباهرة.