مكمّلات السرد الحديث في الرحلة العجيبة للسيد {ميم»

ثقافة 2019/12/16
...

 يوسف عبود جويعد
 
قد تكون تجارب الحياة والخبرات والمعلومات المكتسبة منها ومن المطالعة لكبريات الروايات والقصص العالمية، ومتابعة حركة تطور فن صناعة السينما التي جاء ذكرها مستهلاً للمجموعة القصصية (الرحلة العجيبة للسيد "ميم") للقاص محمد علوان جبر/ دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع لعام 2019، في إشارة مهمة لمدى الفائدة المكتسبة من خلال مشاهدته للافلام التي كانت تعرض في صالات السينما في البلد مثل صالات الخيام واطلس وسميرأميس والنصر وبابل والنجوم وغيرها التي كان القاص متابعاً نهماً لمشاهدة تلك الافلام فيها.
وكل قاعة من تلك القاعات السينمائية كان لها نهج خاص في عرض الافلام، اكسبته خبرة مضافة في فن صناعة القصة القصيرة، وانعكس ذلك على تطور أسلوبه في عملية إعداد النص القصصي، فضلا عن هذا فإنّ القاص ومن خلال تجربته في الحروب كواحد من الجنود الذين اشتركوا فيها وخاضوا غمار عالمها الموحش، حيث شبح الموت والخوف والنيران المشتعلة واصوات الانفجارات والحرمان الغريب، الذي كان يشكل هاجس قلق وحزن لدى المقاتل الذي كان يشتاق الى الاهل والحبيية والاصدقاء والمحلة والناس وحياة الترف. 
انتقل كل هذا إلى واقع لا إنساني وقاسٍ وظالم، فشكل مساراً آخر من مسارات التجارب التي تصب في تطوير أدوات السرد وعناصره، إذ انضمت كل هذه التجارب لتكون السياق الفني الذي يتبعه القاص في إعداد النص، إذ نجد لغة السرد في هذه النصوص مركّبة بين أكثر من عنصر من العناصر التي تدخل ضمن الرؤية الفنية لهذه اللغة التي تعد من أهم الادوات التي تسهم في إنضاجه، وهي خليط من الواقع والخيال والمؤثرات النفسية التي هي حصيلة التجارب الحياتية المكتسبة لتنتقل الى الواقعية السحرية في اللغة بحد ذاتها، ثم الى النص بشكل شامل، ليصل النص السردي القصصي إلى المتلقي بلون آخر مختلف بسبب هذا التشكيل وهذا التكوين الذي يظهر فيه الجهد الفني بشكل جلي، وبهذا فإنّنا نتابع مبنى النص، وقد توحّدت أدوات السرد وانصهرت واتحدت، لينبثق منها الإيقاع والانسيابية ليشكّل ويكوّن هذا التناغم والتوحّد الذي ينفرد فيه القاص عن اقرانه من صنّاع القصة القصيرة، وهكذا نكون مع العالم الساحر الذي لايمكن أن يصل الى مرحلة النضج تلك إلا بتوفر الادوات سالفة الذكر. 
في القصة القصيرة (تدرّجات لونيّة) ننتقل مع بطل هذا النص وهو يدخل صالة لعيادة احد الاطباء، ولأن حالة الانتظار في تلك الصالة تثير فيه الملل والضجر فإنّه يمارس لعبته الاثيرة، في عملية الاستكشاف وتفحّص وجوه ومعالم الشخوص الذين يجلسون في الصالة بانتظار دورهم، فيتفحّص المرأة التي امامه ويقدر عمرها بخمسة واربعين عاما، ثم يعود الى عشر سنوات مضت ليكتشف كيف كانت في ذلك الوقت، ويحاول قدر الامكان ان يخرج بنتيجة هل انها درست في
 الجامعة: 
(إذاً سأمضي قدماً نحو عشرة أعوام أخرى حيث الحرب الطويلة قائمة مع جارتنا المثيرة للجدل، يومها كان عمرها خمسة عشر عاماً، والحرب تنفث روائحها وهوسها وتفاصيلها الغريبة على الجميع وهيمنة صور التوابيت المشدودة على سطوح سيارات "الكراون" الملوّنة بالابيض والبرتقالي والجثث التي تعود بيوتها وهي ملفوفة برايات الوطن) ص 15. 
وهكذا نجد مدى ارتباط بنية العنونة بمتن النص كون تلك التدرجات اللونيّة هي إشارات سيميائيّة لما يعني كل لون في تلك الحقبة، مثل الوان العلم والوان السيارات الى غيرها من الالوان التي درجت في هذا النص بالضربة المفاجئة التي يستخدمها القاص في كلّ نص من هذه النصوص، إذ أن تلك المرأة تنظر اليه وتعلوها ابتسامة وكأنّها تؤكد بكونها تمارس عملية الاستكشاف نفسها التي كان يمارسها بطل هذا النص، وربما تكون الحبيبة التي غمرها الزمن كل هذه السنين والتي تبدو انها متزوجة ولديها طفلة لها من العمر خمسة
 أعوام. 
في القصة القصيرة (لم يعد يعرف أحداً) في هذا النص ننتقل الى حالة فقدان الذاكرة لبطل هذا النص، الذي يرقد في احد المستشفيات وسيدة أمامه تناديه باسم فوزي الا انه يقول لها: انا اسمي محمد، وتدور الاحداث الغريبة ليكون المتلقي وقد عاش حالة فقدان الذاكرة مع بطل هذا النص، وقد انتهى النص وما زال لايتذكر شيئاً: 
(هز الطبيب رأسه ثم أمسك بيد المرأة وأدارا ظهريهما لي.. بقيت جامداً في السرير أطالع السقف بصمت وأنا أسمع وقع خطواتها القوية السريعة، على أرضية الموزائيك الملوّن، مستعيداً دفء جسدها ورائحتها التي هيمنت تماماً على حواسي.)
 ص 28. 
وفي قصة (الرحلة العجيبة للسيد "ميم") نكون مع احداث متداخلة ورحلة سردية تمتاز بالغرائبية إذ أن بطل هذا النص يعين بدائرة للقضاء كانت سابقاً سجناً هو أحد نزلائه، ونبقى مع التداعيات والذكريات والتخيلات التي امتازت بنضجها. 
ضمت المجموعة ثلاثة عشر نصاً، تقف بذات المسار عدا قصة "الطريق الى القرية" التي تستحق وحدها دراسة عميقة لايسع المجال هنا للكتابة عنها، عموما كل القصص قدمت برؤية فنية جديدة تؤكد بأن القاص متابع لحركة تطور السرد وحركة تطور الفن، فضلا عن الخبرات المكتسبة وتأثير الحروب التي عاش غمارها، وبنسق فني
 مركّب.