كم كنت أتمنى، لو أنّ المتظاهرين المنتشرين في أرجاء الوطن، مطالبين بالإصلاح، لو اضافوا الى مطالبهم الحقة والمشروعة، طلبا، بإصلاح واقع حال اللغة العربية في مؤسسات الدولة كافة، بعد حالة الانهيار الفجيعة التي تعرضت لها، في مؤسساتنا، وحتى جامعاتنا التي من المفترض أن تكون عرينا مصانا، يحمي لغة الضاد من حالة الاستخفاف بحالها .
فهل من المنطق والمعقول أن يصل الحال بلغتنا الأم، الى ما وصلت اليه وهي التي جاءت بالأسماء التي علّمها اللهُ آدمَ ليخبر بها الملائكة أجمعين.. وهي الكلمات التي تلقاها آدم من ربِّه فتابَ عليه؟.. وهي الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم فأتمهنَّ ليجعله للناس إماما؟.. أمن العدل أن تنهار لغتنا وهي لغة الأمّة التي جعلها الله وسطا
فكانت خير أمة أخرجت للناس؟.. وهي كلمة الله التي بشّر بها مريم؟.. وبها جاء أحسن القصص الذي أوحاه الله لنبيه عن نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود ؟.. وهي (أ. ل . م . ص)؟ هي الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ .... هي (ك . هـ . ي . ع . ص).. هي (ط . س . م).. هي (ا . ل . م) .. هي (ح . م . ر . ع . س . ق )
..هي (قاف والقرآن المجيد).. هي (الكتاب المسطور في رق منشور) .. هي (نون والقلم وما يسطرون) ؟
هل من المروءة أن يتردّى حال لغتنا وهي التي نزل بها القرآن العجب الذي استمعه نفرٌ من الجن فآمنوا بربهم؟ .. وهي المعجزة الكبرى التي بزَّ بها النبي محمد (ص) من سبقه من الأنبياء والرسل (اقرأ باسم ربِّك الأكرم الذي علَّمَ بالقلم)، وبها كان العارف لما سبق والفاتح لما استقبل..؟.
نعم إنّها، المعجزة الكبرى.. لأنّها مِداد كلمات الله التي لو كان البحر ومن خلفه سبعة أبحر لنفدت مياهها وأجدبت وما نفدت تلك الكلمات ..
نعم إنّها المعجزة الكبرى، فبحروفها نظم الشعراء قوافي وجدهم: (هل جادك الوجد والأشواق تحترق ... وأمعن السهد في عينيك والأرق) .. وهي ترنيمة بوح العذارى.. هي صليل السيوف واشتباك الأسنة، تشحذ معنويات أبطال فتوح العرب.. هي هدهدة أمّ لوليدها وهو في المهد صبيا.. هي همسة عاشق لحبيبته.. هي معين تاريخنا وأدبنا وتقوانا ونزقنا.. هي التي حفظها لنا الله في قرآنه الكريم.. هي روح البلاغة ونهجها.. هي لغة العشق والوجد.. هي المعلقات السبع.. هي ميمية الفرزدق: (ما قال لا قطُّ إلّا في تشهده .. لولا التشهدُ كانتْ لاؤه نعمُ) .. هي (بحور) الفراهيدي و(نقاط) أبي الأسود الدؤلي و(قواعد) سيبويه و(حر) السيّاب ونازك الملائكة و(قل ولا تقل) مصطفى جواد.. هي كلمات ليست كالكلمات.. هي حضارة.. هي تاريخ.. بحروفها عرفت الإنسانيّة الطب والهندسة والرياضيات والفلك.. هي ذا وذا وغيرهما الكثير.. هي لغتنا العربية.. إنْ بقيتْ بقينا أمة تشمخ بين الأمم .. وإنْ تلاشتْ تلاشينا لنصبح أثراً
بعد عين ..
لغتنا اليوم في خطر.. فالأدب الرفيع بدأ يتراجع ليسود بدلا منه أدب (الفيسبوك) ومفردات هجينة تغوّلت علينا فأضعنا لغتنا الأم!!.. ترنيمات العاشقين المغنّاة لم تعد تحمل روحا عذبا.. غابت لغة الشعر والمعلقات والملاحم!!.. فمن ذا الذي يوقف التداعي الخطير الذي تتعرّض له لغتنا العربية التي اعتمدتها الأمم المتحدة واحدة من اللغات العالمية الحية وجعلت لها يوما سنويا هو الثامن عشر من كانون الأول؟؟.
هل سنقف على أطلال امرؤ القيس لنبكيَ مجداً غابراً، كانت فيه اللغة العربية سيدة اللغات لينطبق علينا قول عبدالله البردوني (ماذا فعلنا؟ غضبنا كالرجال، ولم نصدق، وقد صدق التنجيمُ
والكتبُ)؟
البكاءُ لايجدي نفعا، والغضب الاجوف لايصلح حالا، فلغة الضاد ليست بحاجة الى من يبكيها، بقدر حاجتها الى تضميد جراحاتها الغائرة في مفرداتها
الباهرة !!!