ضياع الحلم في البئر

ثقافة 2019/12/21
...

ناجح المعموري 
 
النزول للبئر في أسطورة يوسف المعروفة، انفتحت عميقاً على تعدد القراءات واتساع التأويل، وانشغل بها الدرس النقدي البلاغي واهتمت بها الجماليات والميثولوجيا. لكني اعتقد بأن هذه الاسطورة مستمرة التشاكس ولها حضور لن يتعطل، هذه الاسطورة لا يتوقف فيها الخلق الدلالي، بل على العكس يزداد حضور المعنى، وهذا ما يتعاضد معه وجود تنوع المرويات الخاصة بهذه الاسطورة، وتعدد المرويات عامل مساعد على انفتاح التلقي وخضوعه لسيرورة مستمرة للابد، لذا ظلت اسطورة يوسف ذات حضور عميق منذ لحظتها الاولى التي صاغت فيها البنية الذهنية الفرعونية "حكاية آنو ووبايتي" وانتقلت نحو التوراة والقرآن. 
وتحولت شخصية يوسف الى نمط رمزي حيوي، وظفته الشعرية العربية والسرديات
 الحديثة.
أثار الشاعر علي حنون العقابي في مجموعة نصوصه الشعرية "وحدي ولم يكن معي سوى قلبي" الايروتيك كثيراً وذهب بعيداً حول ثنائية المذكر والمؤنث، يتداخلان معاً ولم يكن سهلاً الفرز بين ثنائية المذكر والانثى، لكن الطاقة الحسيّة لم تمنحنا امكانية العزل بين الاثنين لأنّ السرديّة هي التي تقود القراءة نحو الجسد المرتبك بالافتضاض والارتباك وارتعاش المعجم اللساني لحظة الاشتباك والبلل، لذا ذهبت انا نحو التعامل مع نصوصه الشعريّة بوصفها ايروسيات، حازت على تنوعات في السرد واختلاف التمركز حول بؤرة الحسيات والتعايش معها. لذا انا قرأت اسطورة يوسف متجاورة مع الاصل وبدئية الايروتيك وتداخل سرديات الموت والحياة. وذهبت نصوص الشاعر علي العقابي نحو الجسد وكان جسد يوسف متمركزاً وسط دوارة النصوص. ولا يمكن تجاهل الايروس في اسطورة يوسف وتفاصيلها المعروفة مع زوجة فوطيفار/ زليخة، والمثير في هذه الاسطورة هيمنة القراءة الاحادية حول خلاص يوسف من الانزلاق مع الغواية وجرّدته الاسطورة تماماً من حواسه لكن الاسطورة القرآنية اشارت الى ما فعلته الفتيات اللاتي قطعن اصابعهن، وهذا الفعل الرمزي ينطوي على شعرية دلالة الاتصال الذي بين يوسف وبينهن. وهذه الاسطورة ليست محددة باطار ثابت، بل مماثلة لما في النصوص من امكانيات تنوّع القراءة والفحص وتزايد المعنى. وسأكتفي بإثارة ملاحظة لم تشر لها الدراسات السابقة وهي العلاقة القائمة بين فوطيفار ويوسف. هذا الزوج المجنون بالشاب الجميل وبدأ يشعر بالغيرة من زليخة لأنها احبت يوسف. يلاحظ ان هذه الشخصية تشتغل على الايروتيك وانا قرأت نزوله للبئر نوعاً من الاتصال، لان ظاهرتية البئر فالوسية والاستقرار فيه استمتاع بين الاثنين.
كانت اسطورة يوسف نصاً من بين نصوص الشاعر في مجموعته وذهب كثيراً ومركزاً حولها واجرى تبادلاً بين الانا/الذات والاخر المعروف بأسطورته/يوسف، لأنه قابل لتنوع توظيفاته. واختار الشاعر يوسف مرموزاً له وكتب نصاً كاشفاً عن العناصر الدالة على الاصل البدئي والمبكر في التاريخ.
ضيعت طفولتي في غياهب البئر 
أتهجّى الوشم المتلالئ في دمي 
أهذي خلف من رحلوا حتى دنوت من بوابة الكنوز 
فأشاع الهدهدُ اخباري 
وضجّت في جمجمتي كلّ المواويل / ص 67//
الاحساس بالتراجيدياً في نص يوسف الشعري اكثر عمقاً مما توفر في التراجيدياً البدئية، لان علي حنون اضاع بدئيته الزمنية في البئر، ولعل مفردة "غياهب" قادت القراءة، بما تنطوي عليه من وضوح مباشر الى اسطورة يوسف ويلعب عليها الشاعر ويتخلص بهدوء مؤقت ويلوذ بشعرية وغرائبية لاذت بالهدهد، الوسيط، الرسالي بقداسته المعروفة في اسطورة سليمان. هذا الحامل بسرية لا يعرفها غير المقدس وتضمن جناح الهدهد ليس هدهدا واحدا بل كل ما موجود في فضاء الحياة بلغة سريانية ما يلي: آل محمد خير البرية. والدّراج يصلي على آل البيت فيشيع، واذا عطش دعا على ظالميهم.
رسم الشاعر عجائبية هذه الاسطورة، لحظة تعرف الشاعر/الراوي وادراكه على ان اول حرف من كنية يوسف في كتابه، انه ــ يوسف الجرح العميق الممتد فيه نحو مسيرة الالم والفواجع.
وتطرف بعمق وغرابة اسطورة هذا الشاب الجميل، حتى كمنت في داخل روح الراوي/الشاعر.
انهض يا يوسف من بين اضلاعي فسوف أبارك فيك البياض وأهيل عليك أنفاسي واللهاث المنطلق. من هذا العدم.
انهض من بين غباري 
فيكفي انك تعلو دونهم في المديح 
وانك ملء القلوب 
مجبول من اللغة التي انجبتها العصور 
سردية يوسف المأساوية درس خاص للشاعر، لانه تعلم منه الوجع والفواجع: 
لا بأس عليك يوسف 
وانت الذي علمتني كيف اجمع الحزن 
اسطورة يوسف ترديدات بدئية، صاغتها العديد من اساطير الشرق بخصوبتها. وصمتها وعربدتها. فيضان الجنس، لكنه في نصه الشعري هادئ، يومئ للذي يريد ان يتعرف. ولم تنته مروية يوسف، وحكايات موته المؤقت وهو يحلم بخلاصة وسط البئر مستعيداً اسطورة الملك جلجامش في آخر نص كتبه الشاعر علي العقابي، الملك الذي مات مؤقتاً ومثله يوسف لكنه ــ الملك ــ نازل في البئر باختياره ليتطهر، لكنه خسر ما هو ثمين وظل صامتاً وحزيناً بمواجهة الموت حتى الابد الحياة والموت اغنية الشاعر، انتبه لها وظل مندهشاً وهو يرددها امام وحدته حتى الابد.