تحولات دور المثقف

ثقافة 2019/12/21
...

نصير فليح
واحد من الاسئلة التي تتكرر كثيرا خصوصاً في الوسط الثقافي، هو السؤال عن دور المثقف، لا سيما في الحركة الاحتجاجية الحالية أو التي مضت أو ستأتي. للوهلة الاولى قد تبدو الاجابة واضحة، وهي: توعية الجماهير. ولكن ما أهمية دور المثقف أصلاً في واقعنا الحالي، وما الفرق بين الدور المفترض له و دور «الناشط»؟ بدءا نقول ان دور المثقف اصبح ثانويا كثيرا مقارنة بالعقود الماضية، وحل محله دور الناشط. 
وقد يبدو هذا الرأي غريبا او حتى «استفزازيا» للبعض، ولكن هذا ما سنوضحه في المقالة.
تحولات الإعلام والتواصل
في مراحل انتشار الصحافة الاولى في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت القدرة على الكتابة والقراءة العامل الرئيسي في تحديد طبيعة الدور التوعوي المفترض للمثقف. وعند دخول وسائل الاعلام الجماهيري بعد ذلك مثل الراديو والتلفزيون، تغير الوضع كثيراً، واصبحت هذه الأدوات أوسع واكثر تأثيرا بكثير. 
أما في عصرنا الحالي، عصر السرعة والعولمة والاعلام والاتصال والتواصل الاجتماعي، فقد حدثت تغيرات كبرى في طبيعة العالم نفسه (الذي اصبح “قرية صغيرة” كما يقال) وهو ما ترك تأثيره العميق بالتالي على اسئلة مثل “دور المثقف”، بل ومعنى وطبيعة “الثقافة” نفسها، فضلا عن طبيعة العمليات الاحتجاجية الاجتماعية أيضا.
 
من العقائد..الى المطالب
الجانب الآخر الذي يميز عصرنا الحالي عما سبقه - وهو وثيق الصلة بالموضوع - هو التحول الجذري من أهمية العقائد الى أهمية المطالب. فالشعور العام في عصرنا الحالي صار يتحرك باتجاه التركيز على المطالب اكثر من العقائد، ولهذا اسباب كثيرة. منها الاخفاقات التي عاشتها مختلف الايديولوجيات العقائدية، كالقومية والشيوعية، ثم تراجع جاذبية ووعود الاسلام السياسي – لا سيما في العقد الأخير من الزمان في مجمل العالم العربي _ ووعودها في تحقيق مجتمعات الخير والرخاء والازدهار العام، هذا من جهة، واستمرار معاناة الشعوب المعيشية والحياتية المباشرة من جهة اخرى، حوّل البوصلة بقوة باتجاه الأمور المطلبية لا العقائدية
 أو الايديولوجية. فلم يعد العنصر الرئيسي في جذب الجموع هو عقيدة السلطة أو جماعة معينة، بقدر اهمية نجاحها في تحسين أوضاع المجتمع، والذي سيعود بالخير على القناعة بعقيدتها كتحصيل 
حاصل.
أي ان تحولا جذريا حدث في الشعور العام والخطاب السياسي ايضا، سواء من جهة السلطات او المعارضات، اذ اصبح النجاح في تحقيق مطالب عموم الناس مفتاحا للنجاح في الدعوة والاقناع بعقيدة معينة، وليس العكس كما كان في الماضي، عندما كان التصور السائد أن نجاح عقيدة حزب او جماعة معينة، وامتلاكها للسلطة، هو من سيفضي الى حل المشاكل المختلفة.
 
تحولات الاحزاب السياسية
كما ان دور الاحزاب نفسها – أية أحزاب مهما كانت - اختلف كثيرا عن الماضي ايضا. ففي الماضي كان السياق الافتراضي او الواقعي لانتشار حزب ما - وعقيدته بالتالي - هو تكوين تنظيم أولي تأسيسي، ثم الانتشار التدريجي لذلك التنظيم الى أن يصل بعدها الى النقطة التي تمكّنه من التأثير والنفوذ، او حتى تحدي السلطة القائمة في لحظة من اللحظات المؤاتية.
بينما نستطيع أن نلاحظ بسهولة ان الاحتجاجات الشعبية التي جرت في الأعوام الاخيرة، سواء في عالمنا العربي او بلادنا أو العالم، أمر مختلف تماما. فحالة حرق البوعزيزي لنفسه في تونس، وهو انسان بسيط ضاقت به الاحوال في البحث عن لقمة العيش، كانت منطلقا وشرارة للحركة الاحتجاجية التي ابتدأت في تونس ثم مصر، ثم في عدة بلدان عربية، متنامية بسرعة كالنار في الهشيم بفعل وسائل الاعلام والتواصل. 
وفي واقعنا العراقي ايضا، يمكن ان نلاحظ أيضا ان وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام حلت محل تلك المراحل التدرجية البطيئة المفترضة التي كانت تسبق وتمهد للاحتجاج في الماضي.
فالحركات الاحتجاجية نفسها باتت تفرز قياداتها وممثليها في سياق ومجرى الحركة نفسها، رغم بعض الترابط مع القوى الحزبية او الجماهيرية ذات الحضور الشعبي.
وعليه فإنّ دور الاحزاب نفسها قد تغير كثيرا، اذ امست عنصرا تكامليا لا قياديا في حركات الاحتجاج.
 
من المثقف الى الناشط
هذه بعض التحولات الكبرى – وليس كلها - غيّرت مفهوم «دور المثقف» الى حد كبير، واستبدلت دور المثقف بدور الناشط. فعلى سبيل المثال، ان مطالب الحركات الاحتجاجية التي تجري وجرت في عالمنا العربي وبلادنا، يمكن اختصارها بالتخلص من الفساد، وتحقيق الاصلاح العام باتجاه النمو والازدهار، فضلا عن التخلص من الاستبداد في البلاد التي ما زالت تغيب فيها الديمقراطية، او تحويل النظام الديمقراطي نفسه الى ما يلائم مجتمعا معينا من
 المجتمعات.
وواضح ان هذه المطالب معروفة لدى الجميع تقريبا، وليس للمثقف ما يضيفه جوهريا لها. فهو قد يستطيع صياغتها بشكل افضل ربما، او المساعدة في تحديد اولوياتها، ولكن لا شيء جوهريا يمكن ان يضيفه، ذلك ان تحول الوعي العام باتجاه المطالب الشعبية مختلف كثيرا عن ايام الترويج العقائد كما كان في الماضي.
من هنا، فإن دور «الناشط» قد حل الى حد كبير محل دور «المثقف». فحالة انسانية عفوية مؤثرة يمكن ان تكون شرارة لانطلاق وديمومة الحركة الاحتجاجية، او تصبح رمزا لها، بعيدا عن صيغ الماضي المتعارفة. ولكن، هل يشترط بالناشط ايضا ان يكون متحصلا على بعض الثقافة؟ لعل هذا مطلوب بحدود معينة لا أكثر. فدور الناشط الذي عادة ما يكون مباشرا، في الحفاظ على ديمومة الحركة الاحتجاجية الى حين تحقيق مطالبها، وفي الحفاظ على سلميتها وعدم انجرارها الى العنف المجتمعي صار يختلف عن دور الثقافة والمثقف، الذي اصبح أقل مباشرة من جهة، واكثر ارتباطا بالرؤية الشمولية العامة والبعيدة المدى لما يجري وما ينبغي أن يكون.
ويمكن بالطبع للمثقف ان يكون ناشطا في الوقت نفسه، ولكن لن يكون نشاطه الاحتجاجي او التنظيمي وثيق الصلة بالرؤية الثقافية العامة التي لديه، بقدر ارتباطه بحيثيات ومتطلبات الواقع الاحتجاجي الفعلي، شأنه في ذلك شأن أي شخص آخر تقريبا. والعكس صحيح أيضا، اي ان الناشط يمكن أن يكون مثقفا طبعاً، ولكن نطاق نشاطه الثقافي سيكون غير مباشر في صلته بنشاطه المجتمعي او السياسي او التنظيمي بوجه عام، الا بالقدر الذي يعبر فيه – إذا كان مبدعاً - عن اللحظة المباشرة ابداعياً أو فنياً أو فكرياً.