ياسين النصير
أفصح الحراك الجماهيري في العراق جملة من الظاهرات التي لايمكن تجاوزها اجتماعيا وثقافيا، منها على سبيل المثال أن المنتفضين حملوا معاناة شعب إلى جوار معاناتهم الخاصة، وهذا تحول مهم أن يكون الخاص عامًا، وأن يصبح العام غير فئوي. فهوية الشباب نبرة عامة وليس صوتًا مفردا، لذلك استجاب الناس للنبرة التي بدأت كصوت طبل في ليل بغداد ثم اتسع الصوت ليصبح أغنية شارك في علو نغمتها ملايين الناس في المدن العراقية وبراريها وجبالها، مما يعني أن العراقيين قد كسروا عزلتهم التي فُرضت عليهم بالقوة التي لا يعرف الحاكمون إلّا لغتها.
لم يكن كسر العزلة ممثلًا بالخروج إلى الساحات، والتظاهر ورفع اللافتة واحتساب المسافة بين قلاع السلطة واسلحتها، واعتبار الساحة ملكا للجماهير، فقط، بل تجاوز ذلك إلى التفكير لدى ابن الشعب ان يكون صوته مؤثرا، ونبرتة الغنائية جماعية للتغيير، واملًا بأن يكون له رأي في صياغة المستقبل، وقد أصبح وجوده مشروعًا مبررًا لملايين الشباب من كلا الجنسين كي يكونوا شواهد على التغيير، والمادة التي تؤسس حداثة التفكير بمشكلات المجتمع، وكأنهم خرجوا من سجن كبير كان يقيد ألسنتهم قبل أجسادهم، وتفكيرهم قبل آرائهم، ووجودهم قبل أن يولدوا، وهويتهم قبل أن يمنحوا الجنسية العراقية. هؤلاء الشبيبة الذين يملؤون عين العراق بأفعالهم وهوياتهم، أسسوا لهم خطابًا يرفضون فيه عزلتهم، حين قرروا أن يتخذوا الساحة طريقة لمواجهة قلاع الحكام، وان يعرضوا اجسادهم العارية بوجه البنادق وكاتم الصوت والسكاكين، هؤلاء الذين خطوا طريق الاندماج في تيار المستقبل، صنعوا عراقا لنا، فيه وجودنا المتحقق عبر شعارهم المركزي "نريد وطنًا"، بعد أن كنا والوطن غائبين عن الوجود.
لقد حقق الشباب بكسر العزلة التحاما بالفكر والفلسفة والثقافة العالمية، عندما استقبل صوتهم من العالم، وتناولته مؤسساتها بالتحليل والدراسة، ووضع الوضع العراقي في أمكنة التناول الفلسفي والثقافي، دون ان يقرؤوا كتابا من كتب هذه المجالات، ومن خلال أحاديثهم الممتلئة بالأمل والتفاؤل رسموا خارطة جديدة للافق الذي يفكرون به، لقد كسروا عزلتهم بارادتهم، وقرروا أن يكونوا سلميين، وبأدوات الراية والهتاف والصوت السلمي، وبطاقتهم استعاد الشعب هويته ولغته العراقية الاصيلة، اللغة التي يعرفها اباؤهم ومدونات تاريخهم. إنها كانت السلاح الأمضى في مقارعة المعتدين.
كسروا العزلة بعد ان وجد صوتهم ونبرتهم العالية الصاخبة اذنا من المرجعية الدينية التي راهنت على حضورها من خلال هوية ومواقف ومبادئ الشباب وليس من خلال من ادعى الانتماء لها ثم خان مبادئها الدينية واعتلى كراسي لينهب بها البلاد والعباد، ما تفكر المرجعية به هو ما انتجه حراك الشباب وصواب رؤيتهم للمستقبل، والدين بمجمله هو السلام وليس صناعة الحرب والاستعلاء والسرقة، هكذا بدا كسر العزلة عن المجتمع يأتي ثماره، وهذه المرة من داخل المؤسسات التي تبنّت الحكم وليس من اي عامل آخر. كسر العزلة يعني امتلاك الناس لحريتها، وهويتها والتفكير بما يشغلها لا بما يشغل من يتولى أمرها، ويحاول المتمسكون بادارة دفة الأزمات أن يتهموا الشباب بتهم هم صناعها وهم ساستها وهم مصادرها، فلا اميركا ولا اسرائيل ولا اية دولة وراء حركة وانتفاضة الشباب كل ما في الأمر أنه خرج للعراقيين صوت كان مكبوتا، محطما، ممنوعا، انطلق ليغني في مدن العراق الوسطى والجنوبية، بينما بقي صوت المحافظات الأخرى حبيس تلك الرؤية المقيدة، وهو أمر يثير الاستغراب. سيسمع صوت الانتفاضة لأنه حر، ونقي، ومصفى من كل الشوائب التي تعكر مذاقه، انكسرت عزلة العراقيين، وما عاد ثمة خوف بعد أن وصل عدد الشهداء 600 شهيد والجرحى بلا عدد يحددهم، والمقبلون فرحين على الساحة النضالية يمارسون المزيد من كسر العزلة ليكونوا بمصاف شباب العالم الحديث.