موج يوسف
تعارف عند العرب أنّ الشاعر هو صوت القبيلة أيّ بمثابة الإعلامي الناطق باسمها والمخلّد لأمجادها، وحين جاء الاسلام وسمع العرب القرآن الكريم وما فيه من نبوءات قالوا إنّه شعر، وحين كذّبوا النبي قالوا عنه إنّه شاعر. فالشاعر له مقام عالٍ بين مجتمعه ولاسيما إن كان شديد الاحتكاك بين
الأفراد وأمته.
وحين عاشت الأمة العربية بمرحلة من الحروب والصراعات وهيمنة دكتاتورية حكّامها وخيانتهم للشعوب نلحظ تعالي أصوات الشاعر الرافضة لهذه السياسة وعندما تمّ تكميم أفواهها بدأ الشاعر يضع رؤيته المستقبلية بولادة جيل يكسر أضلع المستحيل.
فالشاعر أمل دنقل في قصيدته (لا تصالح) التي كتبها حين وقع أنور السادات معاهدة كامب ديفيد عام 1978، والقصيدة جاءت بتقنية القناع إذ تقنّع الشاعر بقناع كليب مستمدّة من الموروث القديم وحرب البسوس، فالشاعر في ختامها استشرف بجيل يقضي على دكتاتورية الحكام فيقول:
إنّه ليس ثأركَ وحدك،
لكنّه ثأرُ جيل فجيل
وغداً ...
سوف يولد من يلبسُ الدرعَ كاملةً
يوقد النار شاملةً، يطلب الثأر
يستولد الحقَّ من أضلع المستحيل
الشاعر في هذا النص أوحى بولادة جيل ثائر على حكامه والسلطة المتعاونة مع القوى الخارجية التي قمعت حريته وحرية ممّن سبقوه، وأنه سيعيد الحق الذي سُلب منه قسراً وجاء الاستشراف حقاً متمثلاً بثورات الربيع العربي ولا سيما في مصر حين تم القضاء على نظام
حسني مبارك.
فالشعر تبعاً لذلك هو جوهرياً وظيفة اجتماعية ووسيلة تأثير قوية ونرى هنا أن الشاعر صانعٌ ينتج من أجل الجماعة. واذا انتقلنا إلى شاعر العرب الأكبر الجواهري فسنجده ايضاً تنبّأ بولادة جيل متمرّد فيقول :
سينهض من صميم اليأس جيلٌ عنيد البأس جبّارٌ عنيدٌ
يُقايضُ ما يكون بما يُرجّى ويعطف ما يُرادُ لمايُريدُ
تظهر الابيات أنّ الشاعر قد سرد صفات جيل المستقبل العاصف الذي سينتفض ضد المؤسسة السياسية والدينية التي احكمت أطواقها على العراق فأوقعته في موجة الصراع والعنف. وهذه الابيات ذات استشراف حقيقي تحيلنا الى القول إنّ الذات الشاعرة الواعية تستطيع أن تعطي رؤية بعيدة
للحدث الغائب وهذا يؤكد أن الشعر واللغة في الحدس العربي هو الذي يخلق الوجود، فالكون حامل الماضي والحاضر والمستقبل الذي وجدناه في القرآن الكريم يمكن إيجاده في الشعر العربي. وهذا الشاعر عبد الأمير جرص في قصيدة صرخة يعلن ثورة الجنوب فيقول:
أيّها الربّ الجنوبيّ
يا رفضنا العالي ...
أنت أكبر من جوامعهم
وأكبر من مآذنهم
وأكبر من مناراتٍ حفظنا صمتها
عن ظهر قلبٍ
الرفض أكبر الرفض أكبر
لا إله سوى الجنوب
القصيدة كتبت في التسعينات بعد أن اطمأنَّ نظام الحزب الواحد الى عدم وجود معارض له حين احكم سلطته القمعيّة على العراقيين أجمع، لكن جرص كانت له رؤية أخرى ترى أنّ الثورة تبدأ شرارتها من الجنوب ويُهدم سور الظلم وأن الجنوبي سيسترد حقه وحين اندلعت الاحتجاجات الاخيرة في العراق نرى استشراف جرص تحقق فـ (الربّ) هو الانسان الجنوبي؛ كون الشاعر يرى في الإنسان وحريته قدسية كقدسية الإله.
كذلك أن هذا الإنسان سيثور ضد التيارات ذات السلطة الدينية في الجنوب ويقضي عليها، بل ويتحرر من سطوتها (فالجوامع والمآذن والمنارات) الصامتة اشارة الى حكم المؤسسة الدينية في الجنوب والتي سيرفضها العراقي الثائر (الرفض أكبر) هو اعلان الثورة وتغيير الفكر السائد على يد هذا الجيل. وحين اشتدَّ بركان الثورة في الجنوب قد وقع عدد كبير من الشهداء ولا سيما الناصرية والنجف الذين لا تتجاوز أعمارهم عن عشرين عاماً وقد تمّ تشييعهم الى مقبرة وادي السلام، فأهل هؤلاء الفتية كانوا خائفين من الرمل الذي يدفن فيه ابنهم. وهذا المشهد نراه في قصيدة (مدوّنة الرمل) للشاعر عارف
الساعدي يقول:
دافئاً كان وادي السلام
واسعاً كان قبر الفتى
أوّل الأمر
والمخدة رملٌ قديمٌ
ولكنّه ناعمٌ رمل وادي السلام
وكأنّ الفتى نائمٌ فوق ريش النعام
أنزلوه ببطءٍ
كي لا يفزَّ من النوم
وشوشوا للرمال السخيّة
ألّا تعضَّ ملامحه
على الرغم من أنّ القصيدة كُتبت في عام 2012 إلّا أنّنا نراها وليدة هذه اللحظة التي ذهب ضحيتها الكثير من الفتية الشباب وذلك من أجل الحرية اذ قدموا انفسهم قرباناً لها، لأنّ على المرء أن يضحّي بالأكثر نبلاً وجمالاً، لكن على وجه الخصوص بالإنسان، فالشاعر الساعدي كانت له رؤيا مستمدة من النظرية المأساوية التي ترى أن البطل لكي يتغلّب على عدوه عليه أن يرضخ لمصيره لكنّه يسمو به، وأن قبول ذوبان الذات وهو في الوقت نفسه التسامي فوقها، والحرية الأرقى هي أن يؤثر المرء فناءه الخاص وبتصميم البطل المأساوي على معانقة دماره الخاص يكشف بذلك عن روح إنسانية لا تقهر تستطع بكامل تألقها في وجه تقديم نفسها طوعاً قرباناً، وعليه فإنّ النص السابق تنطبق عليه هذه النظرية التي جاءت بمثابة الاستشراف وكانت مقبرة وادي السلام والفتى بؤرة الحدث الذي وقع في وقتنا الحالي وكان الفتى هو البطل المأساوي الذي عانق جريمته التي فرضها القدر عليه.
وممّا تقدم أن الشعراء الذين شغلتهم قضايا الوطن وأمتهم قد وقعت تنبؤاتهم وهذا ليس من قبيل المصادفة وكانت الحرية جزءا مهما يحتاج الى فداء، اذ يتضح لنا أن الحرية لا تصبح واعية لذاتها إلّا باختبار تمرّد العالم ومقاومتها
العنيدة لمشاريعه.