ياسين النصير
يمكن ان نعكس العنوان ونقول الصورة الفوتوغراية فلسفة، وربما يكون أقرب للفهم عندما نقرن الصور الفوتوغرافية بحياة فيلسوف أو مفكر،فتصبح جزءًا من هويته الفكرية،وهذا ماعمله سلفرمان في الصور الفوتوغرافية لهيدجر وسارتر، عندما درسهما كجزء من حياتهما الفلسفية، فاصبحتا، جزءا من الثقافة والسيرة الذاتية التي غالبا ما تقترن السيرة بالعمل وكيفية انجازه.
في الفهم الثاني للعنوان الذي نثبته لهذه المقالة"فلسفة الصورة الفوتوغرافية" سيكون حديثنا عن اهية الصورة الفوتوغرافية بوصفها ذاتا تواجه العالم،بغض النظر عما تمثله، سواء اكانت صورة شخصية عادية ام صورة فيلسوف أو صوة شجرة أو جبل أو نهر أوصحراء، أو اي شيء
آخر. في هذا الإطار تمر عملية الفهم لهذه الصورة بثلاث مراحل للتدليل على ما هيتها كصورة، تعني شيئًا.وليست صورة تدل على شيء.
المرحلة الأولى، انني وأنا أنظر إلى الصورة، صورة الشيء،شجرة أو قطعة قماش أو صحراء،أجد أنَّها تباشرني الرؤية، تدخل عيني من خلال ضوئها الذي تسلطة على العينين وتذهب عبر الاعصاب إلى الدماغ ليفرزها كشيء اتى من الواقع الخارجي ودخل الجسم البشري واستقر في البدن، ومن هناك يمكن الاحتفاظ بهذه الصورة كجزء من ذاكرة الأشياء الملفتة للتظر. وتكتفي الصورة الفوتوغرافية في مثل هذه الحال أن تكون مباشرة واعتباطية، وسيكون لها معنى ما إذا اضيفت لاحقًا لمشروع أو نص ، بمعنى آخر أن جوهرها وماهيتها لا تتشكل إلابعد أن تضاف إلى نص او دلالة اخرى، فعندئذ تكون حركيتها من الشيء إلى الدلالة مرتبطة بمحرك آخر ليس من نتيجتها،إنما هي ملحقه به. الكثير من تداعيات ذهننا المتجسد يستعير مثل صور الأشياء ويدخلها في مصهر التأويل، فيجد فيها ما يكمل معنى وما يسد نقصًا في الدلالة العامة، ويكاد الوصف السردي لظاهرة خارجية حين يتموضع القاص في بؤرة خارجية أن مجموعات كثيرة من الصورة المخزونة في الذهن يمكنها أن تظهر لتغذي الصورة التي يصوب الراوي عينه البؤرية
لها.
المرحلة الثانية، تكون الصورة الفوتوغرافية كشيء اسلط عليه أنا رؤيتي القصدية من أجل اكتشاف ماهيتها،هذه الصورة يمكن أن ترى وأن تلمس وأن تسمع وأن تتذوق وأن تدرك وأن نتأملها، وهذا يعني أنَّها كائن يُحس به، كائن يشكل مادة للحدس الوجودي، وعندما تمثل الصورة شيئًا ما، تكون الصورة جزءًا من سيرته، وعندئذ يمكن احتسابها نصًا كما يقول سلفرمان لهذا الكائن وليس لكائن آخر، فصورة الشجرة تحسب نصًا للشجرة المعنية، وليست نصًا للجبل أو للنهر. الرؤية القصدية تشكل الصورة من كائنيتها الطبيهعية المباشرة، إلى كائنيتها التأملية الفاعلة، ويمكن للرؤية أن تخترق سطحها وتغور في تفاصيل عالمها الداخلي، خاصة إذا كانت بالأسود والأبيض، حيث تتيح تدرجات اللونين للرؤية أن تقف على مستويات الضوء والعتمة
المتدرجتين.
في المرحلة الثانية للوعي بالصورة الفوتوغرافية، لا تقف الصورة عند حدود شكلها الخارجي، الظاهر للعيان، بل تتحرك كلما صوبنا لها رؤيتنا من جديد، فعامل الزمن المتغير للرؤية يسحب معه متغيرات الزمن الخارجي، فأي شيء مصور لايمكن أن تكون الرؤية له تحت الضوء مشابهة لرؤيته تحت النور، أو تحت ضوء خافت، أو معكوسة على جدار أبيض مثلما هي معكوسة على جدار ملون، او مرئية من خلال مرآة، مما يعني أن أي تغيير فيها يكشف عن ثمة طيات محتوياتها الماسكة على معانٍ ضمنية لسيرتها الذاتية. يلجأ علماء الفلاحة إلى وضع تاريخ لزراعة نبتة ما، ثم يتابعون صورها تبعًا لنموها، وكأي كائن بايولوجي يجدون أن الصورة تقترن بالنضج
، وأن لها تاريخًا كأي كائن له وجود مباشر.هذه السيرة الذاتية للشجرة هي سيرة فعل أسستها الصور، وليست سيرة ذكريات أو أرشيف،أي أن نموها هو من يغير الصورة لها. فالكثير من أجزاء الصورة لا ترى بالعين، ولكنها موجودة فيها، فصورة وجه إنسان لاتعني الخطوط الخمسة التي تكونه: خطان افقيان(العينان) وخط أفقي واحد (الفم) وخط عمودي(الأنف) وخط دائري(الوجه)، بل تصور كينونة هذه الخطوط وهي تنقل جينات البنية الكونية للإنسان، ولذلك نجد أي تغيير في أي خط منها يعطينا صورة لشعب من الشعوب.
في الرحلة الثالثة للصورة الفوتوغرافية، هي أنها وجدت هكذا من دون أن تعني شيئًا، ولكنها صورة متحولة، صورة لحجر ملقى في الطريق، أو لغابة وجدت طبيعية، أو لينبوع انبثق من باطن الأرض، او لحي بن يقظان ولد في جزيرة معتدلة المناخ، أو لآدم وعلائق الخلق من الطين، أو تيار مائي يتحول إلى فيضان، هبة هواء في صحراء تتحول إلى إعصار، متظاهر في ساحة التحرير يتحول إلى رمزلاستدعاء تاريخ العراق النضالي، لافتة تتحول إلى برنامج عمل سياسي، وهكذا تجد الصورة كائنًا حيًا وجودًا اجتماعيًا عندما تكون مهيأة لأن تصبح ظاهرة ، هذه الصيرورة للصورة لا تعني إلا ذاتها، أول الأمر ثم تجد شموليتها في العالم عندما تصبح أيقونة، ولذلك سيكون تأثيرها في الرؤية قويًا عندما تفرض ما تريده، فتمارس نوعًا من قمع العقل العادي للشيء لأنها ليست شيئًا بمعنى معين،إنَّها كينونة للشيء قبل أن يسمى، ولذلك يقال أن الأسماء التي اوكلت لآدم باطلاقها على الأشياء، ليست إلا طريقة للتمييز في ما بينها أسميًا وليست طريقة لفهم ماهيتها وتركيبها الجيني، الا أن هذه الصورة التي نراها في ساحات الانتفاضة لا تعد تمثلات لأجسام المتظاهرين، بل لأفكارهم، وهو ما يغني المشهدية التي يكونها حضوره المترك كي يخلقوا ظاهرة الصورة وليست الصورة بذاتها. خاصة إذا ما قدمت في ساحة تلتقي فيها كل الاتجاهات، عندئذ ستكون الصورة اتجاهية وليست مكانية محددة، لذلك يمكن استنساخها أو تكرارها في أمكنة اخرى، وهو السر الذي انتشرت فيه صور الانتفاضة الحالية في العراق، وعمت مدنًا وأقضية لم تكن يومًا تفكر في الخروج على السائد العام الذي يركن إليه الحاكم في تسلطه.