"حيث ينبع الكلام" مجموعة شعريّة للدكتور أديب صعب، صدرت حديثاً في بيروت عن الدار العربية للعلوم، تضاف إلى عدد من مجموعاته السابقة. وفي نبذة الناشر عنها أنها "قصائد غنية بالصور التي تجعل منها لوحات شعرية تفتح أمام القارئ عوالم لا تنتهي سعةً وعمقاً، على تقنية متفردة في البناء الشعري". في الشهادات المنشورة على الغلاف الخلفي للكتاب، نقرأ للناقد د.فؤاد أبو منصور: "أديب صعب صوتٌ صافٍ، مع نبرة تحمل رعشة الشعراء الكبار، ونص شعري يقف دون دعائم خارجة عنه... من أجمل ما كُتب بالعربية". وفي شهادة خليل حاوي حول شعر أديب صعب أنه "يَصدر عن نضج يندر أن نقع على شبيه له"، فيما يجد أدونيس في شعر صعب ما يضعه "بين طليعة الشعراء". ولمناسبة صدور مجموعته الاخيرة حاورناه :
* مجموعتك الشعرية "حيث ينبع الكلام"، الصادرة حديثاً، سبقها عدد من المجموعات. كيف ترى الجديد فيها بالنسبة إلى شعرك السابق؟
- في المجموعة الحالية عدد من العناصر التي يمكن أن نسميها "جديدة" في ضوء شعري المنشور سابقاً. منها عنصر طغيان القصائد القصيرة. في مجموعتيّ الأخيرتين قبل هذه، وهما "أجراس اليوم الثالث" و"مملكتي ليست من هذا العالم"، تَغلب القصائد الطويلة. فالمجموعة الأُولى تحوي ثلاث قصائد طويلة بدون أي قصيدة قصيرة، والثانية تحوي خمس قصائد طويلة، مع عدد قليل نسبياً من القصائد القصيرة التي لا يتجاوز عدد صفحاتها الخمس والثلاثين. القصيدة الطويلة في شعري هي استمرار لنزعة في الشعر العربي والعالمي الحديث تجعل من الشاعر شاهداً على عصره في حركاته الكبرى كما يختبرها الشاعر وسط تجارب وجودية كالحرب والسلام والحب والموت والنهوض القومي، يتحدد في ضوئها معنى الحياة والكون.
* جوابك يثير عدداً من الأسئلة. إذا كان في شعرك المنشور سابقاً طغيان للقصيدة الطويلة على القصيرة، بعكس مجموعتك الحالية التي تطغى فيها القصيدة القصيرة، فهل يعني هذا أن التذوق أو الذوق الشعري تحوّل نحو القصيدة القصيرة؟
- هذا التحول حصل فعلاً. ومن أقوى أسبابه، كما أرى، تلاشي القضايا الكبرى أو ضعف اهتمام الناس بها. هذه القضايا، مثل القومية والنهضة، شهدت انحساراً كبيراً في العالم العربي وحول العالم. ثمّ أنّ الشاعر المؤهَّل لكتابة هذه القصيدة، التي تصنع عالماً من نسيج فكري – شعوري – خيالي، وباستخدام عناصر روائية ومسرحية وملحمية وغنائية، نادر الوجود على الدوام. ولْنتذكر أنّ طول القصيدة لا يجعل منها "قصيدة طويلة" بهذا المعنى ما لم تتوافر العناصر التي ذكرناها. وأُسمّي من شعراء هذه القصيدة الكبار اثنين: تي إس إليوت في العالم الناطق بالانكليزية، وخليل حاوي في العالم الناطق بالعربية.
* بالعودة إلى الذوق السائد، ألا تجد أيضاً أنّ هذا الذوق تحوّل عن الشعر الموزون إلى قصيدة النثر؟
- الاجابة الدقيقة عن سؤال من هذا النوع تحتاج إلى دراسة إحصائية. لكن في غياب التربية الفنية الرصينة عن مدارسنا، يبقى على الشاعر أن يبني جماعة قرائه ويصنع معايير الذوق والتذوق حول شعره وما يشبهه من شعر. لكن نلاحظ أنّ كل أشكال الشعر الرئيسية تُكتَب اليوم: الموزون – في نَوعَيه العمودي والحرّ – وغير الموزون، أي قصيدة النثر. ويستطيع الناقد الحقيقي الموضوعي أن يلحظ الجيّد والرديء في هذه الأنواع
كلها.
* مجموعتك الحالية هي الرابعة. وهي تأتي بعد عقود من الزمن على نشْرك "مملكتي ليست من هذا العالم". كيف تفسر هذا الانقطاع؟
- إذا كان ثمة "انقطاع" على الاطلاق، فهو انقطاع عن نشر الشعر، لا عن كتابته. وهو أيضاً انقطاع عن نشر الشعر في كتاب، لا عن نشره في مطبوعات أُخرى أو على الملأ. يُضحكني بعض "نقّاد" الشعر في تبنّي مفاهيم وعبارات تخطاها الزمن، مثل "مُقِلّ" و"مُكْثِر"، في أحكامهم على الشعراء. الشعر، ككل كتابة، لا يُحكَم عليه بمفاهيم كمية مثل "كثير" و"قليل"، بل بمفاهيم نوعية مثل "جيد" و"رديء". كما يُضحِكُني بعض الشعراء الذين يتباهون بعدد مجموعاتهم الشعرية، علماً أنّ كلاً من كتبهم قد يحوي قصيدة واحدة تندرج في عداد "المطوَّلات". هذا العدد الكبير لا يضمن بقاء شعر شاعر بعد رحيله. ثم ما الذي يبقى من شاعر كبير سوى صفحات قليلة لا يأتي عليها الزمن؟
معلومٌ أنه بين مجموعتي السابقة والمجموعة الحالية نشرتُ خمسة كتب متكاملة، أي خُماسية، في فلسفة الدين: "الدين والمجتمع"، "الأديان الحية"، "المقدمة في فلسفة الدين"، "وحدة في التنوع"، "دراسات نقدية في فلسفة الدين"، أَدخلَت موضوع فلسفة الدين – حسب إجماع الأوساط الأكاديمية – إلى الثقافة العربية المعاصرة.
* اهتماماتك وإضافاتك الفلسفية معروفة. أنت من المشتغلين الرئيسيين في نطاقَي الشعر والفلسفة. من ناحية، كيف ترى العلاقة بين النشاطَين؟ ومن ناحية أُخرى، كيف استطعتَ التوفيق بين الفيلسوف والشاعر في شخصك؟
- أجل، هناك نطاقان في هذه الحال: الشعر والفلسفة. نطاقان، ومن ثمّ منطقان. الشعر بَوح وجداني، تعبير بالصورة والكلام والنغم. الفلسفة، حيال الشعر، تطرح أسئلة كهذه: ما هو الشعر؟ لماذا الشعر؟ ما الفرق بين الشعر والعلم، مثلاً، أو الشعر والدين، أو الشعر والحياة اليومية؟ طالما ميزتُ بين ما سميته نشاطاً "أوّلياً"، أي يأتي أولاً، ونشاطاً "ثانوياً" بمعنى أنه يلي النشاط الأوّلي بهدف تحليله وتحديد ماهيته. ليس الشعر أفكاراً أو مفاهيم مجردة، وليست الفلسفة تعبيراً بالخيال والعاطفة والصور.