الحاضر إرثًا

ثقافة 2019/12/29
...

ياسين النصير

 
على مدى اسبوع تصفحت وقرأت في ثلاث كتب، لأدباء متميزين، لهم حضورهم وصوتهم وهويتهم، الكتب هي : "غيمة عطر" للقاص المبدع حميد الربيعي، و"ضباب الأمكنة" للروائي الكبير زهير الجزائري ، و"واقعنا الثقافي" للشاعر والمترجم  نصير فليح. أقول ثلاثة كتب مهمة،  ، وبالرغم من تعلل صحتي واضبت بحدود الإمكان أن اقف على المحتوى الفكري لهذه الكتب الثلاثة. فبنية هذه الكتب بنية أجزاء وليست بنية سردية متنامية، كل جزئية لها قوانينها وطرق قراءتها. قراءتي لها أشبة بطبيب يفحص الجسم من خلال قطرة دم واحدة ليستدل بها على طبيعة النص. كي تعرف كيف يفكر حميد الربيعي عليك أن تمعن النظر كثيرًا في نهايات قصصه، في هذه المنطقة تتجمع خيوط النص كلها، ليعلن أن الشخصية قد وصلت إلى نقطة التقاء كل الطرق ، فتكوينها المعرفي ليس إلا مجموعة خيوط السرد، وكأنه يقول: ليس من شخصية تدخل النص كاملة،اكتمالها هو في علاقاتها:"ذلك الصندوق،الذي امتلكته جميع الأجيال فوضعت فيه كل ألعاب الحاوي، وصلني أنا محمد بن شرهان، من عنزة العثرة، لكوني سليل الأسرة الأخير، حيث كنت فعلًا بأمس الحاجة للصندوق ومحتوياته لأجايل زمني المتقلب، منذ بدء الألفية الجديدة" هذه النهاية عبارة عن مجموعة خيوط تلتقي ليختم بها الصبي مسيرة صندوق الأب الذي لازمه في حياته وموته، مندمجًا بحكايات يرويها "ابو العلاء المعري"، عن كثرة الذاهبين للنار، ولم يعد للصبي من مجال إلا أن يطلب من الأب أن يواصل مهنة صباغة الأحذية التي دأبت عليها الأسرة من عصر المأمون إلى اليوم، فالصندوق ليس أداة فقط، إنه رحم يحتوي كل الأشياء التي تخص الأسرة وما انطوى عليه الزمن، ونتيجة لذلك يولد الصندوق ثانية ليواصل حضوره عبر الصبي راويًا لصباغة الجدران والأحذية، ومكملًا لمسيرة الأب، ومستدعيًا لابي علاء آخر، هكذا يعيد حميد الربيعي بنية الحكاية القديمة ليلبسها أثواب الحاضر موطنا شخصياته ولغته السردية بنية الحاضر، وكأن النص يتجاوز الأزمنة والأمكنة الغارقة بعيدًا في بحار المرجعيات. 
تدلني القصة على غواص مجرب ومختبر في دروب الغوص في مثيولوجيا الأفكار والأمكنة والشخصيات، من أن اي نص دون مرجعيات مؤسسة لايمكن أن تخرج منه الثمار. فمهنة الصباغة التي تتكرر في قصص هذه المجموعة دالة على تبدلات الزمن وتلويناته، فكل عصر بحاجة إلى ألوان وصباغين ، كما لو أننا في دورة مكياج زمنية. 
الصباغ الأبن والأب والصندوق والمعري، والأمكنة استدعت حضور التراث، تراث المعري  الأعمى وهو يجوب حواشي المدينة بعصاه، وتأملاته عن الحياة والموت، ويصبح صندوق العمل خزينة للأفكار بحيث يتوارثه السارد في أخر القصة وكأنه هو سليل العلاقة بين الاباء والإبناء لتصبح مهمة القصة تلوينات على الزمن كي يواجه به عصره الحاضر كذخيرة مجربة، وليصبح صدوق الشغل صندوقًا للمهنة وتاريخًا للخزن، وكأنه إرث متعلق بميراث كوني أبوي، هنا يكشف القاص لنا أن الأدوات تصبح أمكنة وأنها تورث كما لو كانت لها طابو خاص بمن يشغلها. ويرافق هذا كله صورة مستعادة للمعري  قاصًا الحكايات القديمة على سكنة المدن الحديثة معيدًا مزج التواريخ، نادبًا أنه لم يخلف  صبيًا. 
وكأن المعري رسول العالم الدنيوي للآخرة.هذه التركيبة واحدة من ميزات السرد الحديث عند حميد الربيعي بحيث لن يشغلك بحكاية جزئية تخص الشخص بقدر ما يشغلك بقضايا مشتبكة توضع جميعها على طاولة التشريح ليستخلص القاص من خلائطها ثيمة التداخل الزماني/ المكاني.