شكر حاجم الصالحي
بعد نصف قرن من صدور، اول مجموعة شعرية له (الوحش والذاكرة ــ عام 1969) وإلحاقها بــ (26) مجموعة أخرى و(15) كتاباً مترجماً، وتجربة حياتية ثرية بالإبداع والروح المفعمة بحب الآخرين، يصطدمنا الشاعر الكبير ياسين طه حافظ بمجموعته الأخيرة (ما تدورُ به الرياح) والتي ضمت واحدة من أهم نصوصها التي تكشف عن إحباطات وتداعيات متراكمة.
فهذا النص الحياة أعرفها ـــ هو اعتراف الشاعر بكل وضوح وإرادة منبثقة من تراكم معرفي غني يضع القارئ في مواجهة نص صادم يتضمن الكثير من التلميحات والاشارات عن الواقع المتلبس الذي مسّ بشواظ حرائقه هذا الكيان الانساني الذي هو الشاعر المنتج لهذا الوجع الفائض، لقد تعرّفت على أستاذنا ياسين طه حافظ منتصف سبعينات القرن الغابر وبالتحديد في زمن الطليعة الأدبية، اذ عرفته كبيراً بإبداعاته تربوياً ناصحاً بتوجيهاته وارشاداته لنا نحن الشباب في ذلك الزمن يوم كنا نضع خطواتنا الأولى في طريق الكتابة ومكابداتها، ومازال ــ أمد الله في عمره ــ يضخنا بفرائده ونصوصه الجميلة، لكن (الحياة أعرفها) استفزت ذاكرتي بمكنوناتها المسكوت عنها، وحرضتني على كتابة هذه السطور النازفة، اعترافاً بفضل ياسين طه حافظ ووفاءً لما غرسه من قيم نبيلة لا يختلف اثنان على توكيدها والاشارة اليها ...
إنّ (الحياة أعرفها) ليست حياة الشاعر وحده بل هي ــ كما أزعم تشكل سمات مشتركة لأجيال متعاقبة اكتوت بنيران الحروب والحصارات وهيمنة قوى الظلام والاستبداد فأنتجت لنا كل هذا الخراب الذي نرفل فيه. ولا أبالغ اذا ما قلت ان (الحياة أعرفها) هي حياتنا المثقلة بالمراثي والخيبات والانكسارات، فكان ياسين طه حافظ صوتنا المدوّي في إدانة قبحها والتنديد بصنّاعه الفاسدين ..
فهو يقول فيها:
لكي لا أظل كما تحسبون، أقول لكم / نافرٌ من ممالككم / لا أبالي بأمجادكم أو بما تدّعون / هو عالمكم لكمُ / أنا ضيف يغادركم بعد حين / ما حلمتُ بمجدٍ ولا همّني ما اكون / وأنا غير راضٍ بما قد كتبتُ وبلا خجلٍ، ما فهمت نصف الذي قد قرأتُ.
انه كشف جريء ورؤية واضحة لحياة تتقاذفها النكبات وتدميها الحسرات، وهي وصية الشاعر لمن يرثه فهو يفضح جهلنا نحن الذين انشغلنا بالترهات والمماحكات ولم نتح لأنفسنا فرصة الانهماك في الاستزادة من المعرفة، اذ اكتفينا بتصفح النتاج المعرفي دون الغوص في الاستفادة من جواهره، فصرنا نكتب أكثر مما نقرأ، وتلك هي فضيحتنا التي لا يستر عورتها تعقيب هنا ومداخلة هناك تكشف عن فقرنا وادعاءاتنا النرجسية، واذا كان ياسين طه حافظ الذي اصدر اكثر من كتاب بين مؤلف ومترجم يعترف بشجاعته المعهودة:
وأنا غير راضٍ بما قد كتبتُ
وبلا خجلٍ، ما فهمت نصف الذي قد قرأتُ
فكيف بنا نحن الذين لم تزد قراءاتنا العابرة على عدد أصابع أيدينا من الكتب والترجمات فلنتدبّر الحال ونمضِ الى ما يثري حياتنا الخاوية بما تجود به المطابع والعقول المبدعة، ويمضي الشاعر الكبير ياسين طه حافظ في (الحياة اعرفها) فيفضحها ويفضح شخوصها:
وأعرفكم مثلما تعرفون أنفسكم:/ كِذبٌ، غيرةٌ وظنون / وتراؤون حيث مكثتم وتبيعون انفسكم / بسواها، تبيعونها .. باعةٌ مزمنون / هو خطٌ سماسرة عرفته القرون
انها صفات وخصال لا تليق ببني البشر، الكذب والغيرة والمراءاة والتخلي عن القيم بيعاً لمن يدفع اكثر لانهم باعة مزمنون وخطٌ سماسرة عرفته القرون ..
فهذا هو واقع متوارث تشير اليه (القرون) وهذا مجتمع يجب ان ينتبه الى كوارثه من يمتلك ما تبقى من خلق ومحبة وشعور بالأمل والسعي الحثيث صوب مستقبل ليست فيه كل هذه الشوائب والنفايات والترهات، ويختتم الشاعر نصه الصادم هذا بالقول الذي يلخص معاناة متراكمة واوجاع دائمة اذ يقول:
الحياة أعرفها / لن تخادعني أو أخادعها / أخرج صبحاً وعند المساء أعود / ربما أحدٌ ظنّ أني أسابقه / ربما ظنّ آخرُ أني أكنز مالاً / ولا يعلم أني أعيش كفافَ أعيش / وأني في عزلتي قابع من سنين / أرصدُ أيَّ البضائع جئتم بها وتعيدونَ / للبيع صياغتها / ويُضحكني ما أرى من فنون .......... ما تدور به الرياح ص101
وفي الخــــتام لا بدّ من الاشارة الى ان هذه السطور إن هي إلّا شهادة وفاء من تلميذ بحق أستاذه الفاضل الذي ملأ النفس بكل ما هو نبيل وجميل وأصيل، وأعتذر لك استاذي الشاعر الكبير ياسين طه حافظ عن تقصيري ازاء جهدك الذي يستحق ان يقرؤه نقاد الزمن الراهن ليقولوا فيه ما يستحق
من ثناء وتقدير .