أحمد الشطري
كنت قد تناولت في مقال سابق التوظيف السيميائي للمنحوتات في رواية (شبح نصفي) للروائي محمد خضير سلطان الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين عام 2018.
وقد وجدت أنَّ العودة الى قراءة أخرى في جانب آخر من جوانبها الفنية أمر ضروري وملح على الأقل بالنسبة لي؛ لما تتوفر عليه الرواية من قيمٍ إبداعيَّة وعمق فكري، وقدرة فائقة على إغراء القارئ في إمعان النظر بما تنطوي عليه من رؤى وأفكار مهمة.
ويبدو لي أنَّ محمد خضير سلطان في روايته هذه كان يقف في حالة (البين بين) من جدلية موت المؤلف، وتقنّعه بقناع الراوي، فهو تارة يمنح الراوي كامل الحرية في سرد مروياته من دون أنْ يظهر أية إشارة دالة على وجوده أو وجود آرائه الذاتيَّة، وتارة يظهر لنا متخفياً تحت قناع الراوي؛ ليطرح آراءه وأفكاره من خلال الإشارات التأويليَّة لبعض الأحداث أو الأماكن التي ترد في
الحكاية.
إنَّ مسألة تجريد المؤلف من سلطته على النص أمرٌ لا يمكن التسليم له، كما أنَّ تمتعه بالسلطة التامة هو أيضا أمرٌ لا يمكن الركون إليه، ومن هنا فإننا نذهب مع من يرى أنَّ للمؤلف حضوراً نسبياً وفقاً لطبيعة النص وهو في النص السردي تارة يستسلم للاختفاء التام وتارة أخرى يتجلى من خلف قناع الراوي في مساحات تضيق أو تتسع تبعاً لثيمة النص وطبيعة السرد.
وإذا كان الراوي في «شبح نصفي»
كما يبدو يمتلك مواصفات عالية من الوعي فإنَّ المروي له تارة يكون بمستوى تلك المواصفات وتارة أخرى يكون بمستوى منخفض من الوعي يحتاج معه الى التفسير والتأويل ليستوعب الدلالات الرمزيَّة للإشارات والمرموزات التي تتضمنها بعض المشاهد السرديَّة بافتراض عدم القدرة على إدراك دلالاتها
ذاتياً.
وهو أمرٌ ذو حدين، فهو مرة يحد من أفق التلقي ومرة أخرى يكشف للمتلقي المسار الدلالي للثيمة السرديَّة، وخلق عملية توازن بين الحدين يحتاج الى ذهنية واعية قادرة على ضبط خطوات المسيرة السرديَّة من الانحراف الى المسار التعليمي،وبظني إنَّ محمد خضير سلطان قد نجح في إقامة حالة من التوازن من خلال اللغة الشعريَّة التي هيمنت على فضاءات الرواية أولاً وتوجيه المنحى التفسيري أو التأويلي باتجاه الطرف المقابل في الصراع وليس باتجاه المروي له.
«أشاعوه نسراً ثم استدركوا، بأنه عقاب لأنهم سمعوا همساً من حكيم المعارك بأنَّ النسور تأكل الجيف ولكن العقبان تعافها، أراد حكيم المعارك بذلك أنْ يجمع بين إرعاب وإعجاب الخصم بالطريقة التي تجعل الإجهاز عليه سهلة وسالكة..» 96
ورغم محاولة الروائي محمد خضير سلطان بالإيحاء للقارئ بأنَّ الراوي هو أحد شخوص الرواية مما يعني أنه سيستخدم تقنية الراوي المشارك وفق ما نراه في الصفحات الأولى إلا أننا سنلحظ أنه قد تخلى عن هذا الراوي سواء عن قصد أو من دون قصد؛ ليستخدم تقنية الرؤية من الخلف وهي التي يكون فيها الراوي محيطاً بكل ما يدور في النص من أحداث، أو ما يسمى بالراوي الغائب أو الراوي العليم الذي يتحدث بصيغة الـ(هو) وبموجب هذه التقنية يتم فصل زمن الحكاية عن زمن الحكي وهي التقنية الأكثر ارتباطاً بسردياتنا المتوارثة تلك «التي ترتكز على الفعل (كان)» وهي ما مكنت الراوي من التنقل عبر أزمنة متعددة
ومتباعدة.
ومن هنا فإنَّ المذكرات التي أريد لها أو هكذا حاول الروائي أنْ يوحي لنا بأنها ستكون مصدر الحكي، لم يكن لها في الواقع أي أثر في مجريات الأحداث، وما نقل عنها من مقتطفات في الصفحة (99) وبعض الصفحات التي تلتها، لا تعدو أنْ تكون لافتات أو ومضات خاطفة لا تمتلك أثراً فعلياً في مسير الأحداث، ويبدو لي أنَّ تأكيد الروائي على موضوعة المذكرات في أكثر من مكان هو مقصد يُرادُ منه الإيحاء للمتلقي بأنَّ للحكي مصدراً تدوينياً ينطلق منه الراوي وليس فعلاً تخيلياً، ولذلك نرى أنَّ ثمة حضوراً واضحاً لشخصيات واقعيَّة، سواء كان ذلك بأسمائها أو أفعالها وهي محاولة لإضفاء بعدٍ واقعيٍ على المتخيل السردي. كما أننا سنلحظ أنَّ ثمة إشارة تكاد تكون عابرة أو مراوغة الى أنَّ التاريخ الغابر لعائلة (آل فالح) مسنودٌ الى مرويات (الجدة نيسانة) باعتبارها راوية العائلة، على أننا سنلحظ أنَّ كلا المصدرين اللذين أراد الروائي أو الراوي أنْ يوحيا لنا بانهما مصدر الحكي لم يكن لهما أثرٌ ساندٌ لذلك الحكي سوى إشارات ضبابيَّة مغرقة في
الإيهام.
بيد أننا في الحقيقة لا نرى في محاولة الإيهام بمسند الحكي فعلاً سلبياً، بل إننا نحسب أنه ينم عن تمكنٍ واضح على إدارة الأحداث بأسلوب أكثر قرباً لإقناع المتلقي بواقعيَّة الحدث.