بانوراما الأحلام

ثقافة 2020/01/01
...

محمّد صابر عبيد
أيّ سرّ يكتنف عالم النوم عند البشر حين يمتلئ ليلهم بالأحلام وكأنهم يطوفون على بساطِ ريحٍ هائمٍ لا يكفّ عن إنتاج أفلام دراماتيكيّة لا تنتهي ولا تذوي، ولا تكلّ ولا تملّ حتى من تكرارها أحياناً على أنحاء متغيّرة وأشكال مختلفة، ما هذا النبع الحكائيّ والصوريّ والسينمائيّ الخصب الذي تحتشد به ليالي الناس على نحو بالغ الغزارة بلا أملٍ في فراغ؟
تتكاثر الأحلام وتتلّون وتتعاظم وتجمع الزمن الكليّ بماضيه وحاضره ومستقبله على مائدتها من دون أدوات واضحة للتأليف أو التوليف أو نُظُم الصوغ، ربما يسود اعتقاد شبه علميّ لدى الكثيرين أن الإنسان لا يرى في حلمه سوى ما خَبِرَهُ في حياته، إذ لا يمكن أن يرى ما لا يعرف على نحو ما تقرّره النظريات العلميّة في بناء العلاقة بين الذاكرة والتصوّر، سواءّ أكان هذا التصوّر داخل حلم اليقظة أو في أعماق حلم النوم، فالرائي الحلميّ يرى أشخاصاً يعرفهم وله علاقة معيّنة بهم، أو أشخاصاً يأخذون صفات محدّدة لبعض من عرفَهَم في الحياة والواقع كي يظهروا في شاشة الحلم بنهكة الصفات لا حقيقة الصور الواقعية، وهكذا تختلط شتّى الأمور في دائرة الحلم ضمن سبيكة صورية ومشهدية لا تخضع لأيّة قاعدة يمكن القياس عليها.
ثمّة دراما في الحلم تكون على الأرجح قاسية وعنيفة ومرهِقة توقِع الحالم في خضمّها وبين فكّيها المفترسين، قد تجيب على أسئلة عميقة ومحظورة في حياة الإنسان تلقى لها فرصة مناسبة ضمن أفق الحلم الواسع الثراء والانفتاح والتعدّد، فتخرج على أشكال مختلفة ومتباينة يستحيل ضبطها والسيطرة على حراكها بسهولة، لكنّ حشدها في سياق مشترك واحد قد يصلح لاستقرائها بوصفها جواباً على تلك الأسئلة المستعصية التي لا تنتظر أجوبة واضحة وأكيدة، لأنّ العلاقة بين السؤال والجواب ليست علاقة استفهامية رياضية مُحكَمَة تعرض السؤال بوصفه فرضية وتنتظر جواباً حاسماً بوصفه برهاناً أكيداً يؤيّد صدق الفرضية، وبعكسه ستسود قناعة راسخة إمّا بخطأ الفرضية وضروة إعادة إنتاجها، أو خلل التطبيق في طرق الاستدلال على البرهان.
 فالحلم كونٌ آخر يوازي الكون الواقعي من جهة ويوازي الخيال من جهة أخرى، في مثلّث تتساوى أضلاعه ولا تتساوى في آن، تتساوى من حيث البنية الهيلكية الهندسية الافتراضية، ولا تتساوى من حيث طبيعة المضمرات السردية المسكوت عنها في كلّ كون من هذه الأكون الثلاثة، فالكون الواقعي بحُكم واقعيته بحاجة إلى براهين ساطعة على فرضياته على نحو لا يمكن مقارنته بالكون الخيالي والكون الحلمي قطعاً.
محاولة قراءة الأحلام وتفسيرها والوقوف على طرائق تدفّقها وأسلوب إخراجها السينمائيّ وأطروحتها ومقولتها الرئيسة ملتبسة ومعقّدة، حيث يكون الحالم هو البطل، والأنا العليا هي المخرج الرسّام الذي يضخّ الحادثة الحلمية بكثير من الزخم السرديّ والدراميّ، فضلاً على المكان والزمن بوصفهما عنصرين غير محدّدين وغير منتظمين ولا يتشكّلان حلمياً على وفق قانون مشهديّ وسرديّ واضح، كذلك الحدث الحلميّ المهيمن على فضاء التشكيل وهو يتنوّع ويتعدّد بحسب حالة الرائيّ النائم البطل قبل النوم وفي أثنائه، لكنّه هو العنصر التشكيلي الأول والأبرز في بانوراما الحلم صحبة الشخصية المركزية «الحالم» وما تستدعيه من شخصيات أخرى تتلاءم مرجعياً من طبيعة الحدث، بمعنى أنّ الحلم يقوم أساساً على فلمنة الحدث في ارتباطه الجدلي بالشخصية التي تحظى بالضوء الأكبر والأغزر في الحادثة الحلمية.
تقوم هذه الحادثة الحلمية كما تفعل دور السينما الرخيصة حين تقدّمُ مجموعةَ أفلام في عرض واحد، وأحياناً تتداخل العروض وتختلط بحيث لا يمكن للمشاهد فصلها عن بعض، فكيف حين يكون المشاهد هو البطل وهو موضوع الفلم ومشكلته وعمقه المرجعي الأصل، لا يرى الحالم في منامه حلماً واحداً من أوّل الليل حتّى نهايته، بل يرى في كل طبقة من طبقات هذا الليل الغامض فلماً هو أصلاً خليط من أكثر من حادثة، أو في حقيقة الأمر أشتات وكِسَر وأجزاء مقطوعة من حوادث مختلفة لا رابط بينها في الغالب، والرابط الوحيد هو البطل إذ تنعقد الحوادث الحلمية بمجملها حوله وتتجّه نحو مصير يسعى إلى حلّ لغزه.
تؤدّي قضية تفسير الأحلام لدى البعض أدواراً متباينة في إمكانية النظر إليها بجديّة أو تصديق جزء مما يبوح به المفسّر، وإذا كانت الآية القرانية تحيل في معنى مركزيّ من معانيها على ضرورة غلق الباب أمام مؤوّلي الأحلام، في قوله تعالى (قالوا َأضغاث أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بتأويل الأَحلامِ بِعالِمينَ)، لفرط تداخلها وغموض صياغاتها ومقاصدها وهيآتها وعوالمها على نحو لا يمكن فيه للتأويل أن يجد خيوطاً متماسكة على شكل قرائن بوسعه اعتمادها في التأويل، ومع ذلك تحوّلت فعاليّة تفسير الأحلام إلى مهنة، ومهنة مربحة تضاعفُ أرباحَها حاجةُ الإنسان إلى تفسير لأحلامه في توقٍ لا شعوريّ لمعرفة الغامض والمجهول واللايقينيّ في كلّ ما له صلة به.
ولأجل إيجاد حلّ منطقيّ وشرعيّ وإنسانيّ وثقافيّ لهذا الإشكال العويص لمن هم بحاجة إلى حلّ، تصرّفَ العقل الإنسانيّ –ولاسيّما في الثقافة العربية الإسلامية- في سبيل استحداث شكل مميّز منتخب ومحميّ من أشكال الحلم هو «الرؤيا»، إذ يوصف هذا الشكل الآخر من الحلم بوصفها «رؤيا صالحة» قابلة للتفسير في ضوء رؤية إسلامية شديدة الوثوق واليقينيّة، تنظر إلى «الحلم» في الضفة المقابلة على أنّه من عمل الشيطان الرجيم، في حين تولد «الرؤيا» في أحضان الرحمن الرحيم، وشتّان بين شغل الشيطان وشغل الرحمن فهما على طرفي نقيض وبينها صراع أزليّ لا ينتهي طالما أنّ الحياة مستمرّة.
صار لبعض المفسّرين العارفين على هذا النحو تصنيف ما هو حلم وما هو رؤيا بناءً على قناعات المفسّر الشخصية التي تبرز بعد رواية الحلم/الرؤيا على لسان الحالم، في جلسة إصغاء محروسة بالهيبة يتولاها شخص المفسّر وهو يوحي للحالم بأنّه يستدعي قوى خفيّة تساعده في عملية التفسير غير السهلة، إذ تتدخّل مجموعة من المعطيات الذاتية والموضوعية التي يطول شرحها وربّما يُساء فهمها أحياناً في فصل الحلم عن الرؤيا أولاً، ومن ثمّ تفسير الحلم سلبياً بحكم مرجعيته الشيطانية وتفسير الرؤيا إيجابياً بحكم مرجعيتها الرحمانية.