يحمل العنوان قدرا من الاستفزاز والغرابة لدى بعض القراء ، اما البعض الآخر ربما لا يتوقف عنده كثيرا، ويقرأه كما يقرأ اعلانا لمعجون اسنان و لم يبق من اسنانه الا اطلال .. اما (الراوي) فلم يجد ما يقوله سوى اصطناع ابتسامة خيبة على شفتيه .
كان في يده كتابه الشعري الأخير ، كتاب قريب الى قلبه ، عرضه أمام عيني صديقه الجديد ، و بين شفتيه كلمة (شعر) ، و في حسبانه ان صديقه سيشعر بشكل ما بهذا الاعتزاز فيبادر بكلمة الشكر والحفاوة المعتادة و هو يتسلم الكتاب عربونا لعلاقة مقترحة ،... لم تستقر عينا صديقه على لوحة الغلاف - التي حرص على ان تكون على قدر من الجاذبية – انما مسح الكتاب بنظرة خاطفة وابتسامة فاترة على محياه قائلا باعتداد : " لا احب الشعر" !
الخيبة التي مني بها الشاعر المؤلف سرعان ما ذهبت بعدما رمى الكتاب في سيارته .. ثم رجع الى صديقه مجردا من الشعر لينصرفا الى لحظة العمل والهم الذي جمعهما . وبعد ان افترقا و انفرد بنفسه خلف زجاج السيارة ، وجد نفسه يردد لا احب الشعر لا احب الشعر .. محاولا تفكيك المقولة وباحثا عن مبرراتها امام الحاح جملة اسئلة عن ضرورة الشعر او بالأحرى ضرورة الفن بعامة ، وهل فعلا هناك من لا يحب الشعر؟ و كيف ستكون الحياة بلا شعر او فن ان كان ذلك ممكنا ؟ ثم أ يزدهر الشعر في العسر أم في
اليسر؟
لا غرابة في الأمر ، اي ان يقول قائل : لا احب الشعر .. لكن الحقيقة ليست في القول المجرد ، و هل المفهوم من هكذا قول هو الشعر بكونه كتابا معروضا للقراءة ام الشعر بمعناه المطلق ؟ ... انما من المؤكد له علاقة بأزمة القراءة ، اعني انحسار القراءة بشكل عام وبخاصة الشعر، فالعراقي بات مواطنا غير قارئ منذ تسعينيات القرن الماضي لأسباب غير خافية و اهمها انشغال العراقي بتدبير شؤون الحياة المعقدة والاوضاع المرتبكة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا الامر الذي ادى الى تأزم الذات و تردي الواقع النفسي و تفاقم ظاهرة اليأس والقنوط ..
لو كان هناك شخص واحد لا يحب الشعر فعلا ، فهو لا يحب الحياة ، لأن الشعر يمثل الوجه الناصع للحياة و الكاشف عن مكامن الجمال فيها، وباختصار هو الحياة كما يجب ان تكون ... و طبقا لهذا فان الكثير من الناس يضمرون عداء من نوع ما للحياة لما فيها من العذابات و الصدمات والخوف من المجهول . و لا يخلو هذا الزمن القاسي الذي نعيشه نحن العراقيين من انفصام العلاقة بين الكثير وبين الحياة التي فرضت عليه مشاعر السخط والنفور من كل شيء ، اذ يبدو كل شيء قبيحا ، شريرا ، سالبا ، فترتبك موازين الحياة القائمة بطبيعتها على ثنائيات الجمال والقبح والخير والشر و هكذا.. وفق الثنائية الأساس ( الايجاب والسلب) .. اي حين يرى الانسان جانبا واحدا (الجانب السلبي) ويتآلف معه دون الالتفات الى الجانب الآخر..
في مجتمعات كمجتمعنا العربي المحكوم بمرجعيات لاهوتية تهتم بتأثيث العالم الآخر تتخذ موقفا محددا من الحياة الاولى (الدنيا) بعدّها بابا الى المصير المنتظر ، لذا تعد الفنون في هذه المجتمعات ممارسات مريبة لا تشفع او تفيد الانسان او تزيد من رصيده في النهاية ، فلم يتورع البعض من اولي الأمر من وصف الفنون بمضيعة للوقت ، ولا تقرب الشخص الى الله زلفا.. وعلى طرف السنتهم الآية الكريمة " والشعراء يتبعهم الغاوون يقولون ما لا يفعلون الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .." الشعراء أية 224
لم يسأل او يعقب على قول صديقه الجديد (لا احب الشعر) ، فلربما كان حافظا جيدا لتلك الآية ! او لربما كان الشعر من ضحايا الظرف الراهن الذي عد الشعر ترفا في حياة خالية من الترف و فرصة التأمل الجمالي . و لربما ايضا لأن الشعر ليس وراءه مكسب مادي او منفعة تقليدية في ظرف اصبحت المادة فيه تأخذ الاهتمام الأول بل الاهتمام كله .
ما يهمنا هنا ليس الشعر بكونه فنا قوليا ، انما بكونه فنا غير مقيد بوصف او صيغ ثابتة وحدود حاسمة . اذ انه يخترق حدود الفنون كلها ، ففي التشكيل شعر وفي الموسيقى شعر وفي المسرح شعر و في اي حرفة او عمل شعر .. و في كل شيء شعر. لذا فالشعر الصورة الشاملة للحياة ، هو اس الفنون جميعها ، والطعن بها هو طعن به . يقول اميل سيوران : " لو كان علي ان اتخلى عن ولعي بالفنون لما تخصصت في غير العواء" .. و من لا يحب الشعر لا يحب الفنون و لا يحب الحرية ولا يسعى الا الى الممكن المادي والطموح المعتاد في التملك والوصول ، واشباع الحاجات اليومية ..لذا انحسر الفن في العقدين الأخيرين فلا سينما ولا مسرح ولا نواد و لا مهرجانات شعبية .. بينما ازدهرت الخرافة والطقوس الدينية والممارسات الطائفية التي خربت البلاد و فرقت العباد.