رواية أن تكون أو لا تكون

ثقافة 2020/01/03
...

هدية حسين
 
يمكنك أن تقرأ المعلومات في بطون الكتب، أو تجدها على صفحات الانترنت، معلومات ما أن تنتهي من قراءتها وتغادرها حتى ينتهي مفعولها، أو يعْلق شيء منها لفترة ما داخل رأسك، لكن أن تستقي هذه المعلومات وتسبغها على شخصيات روائية بعضها يمت الى الواقع وبعضها من الخيال وتكسوها لحماً ودماً فذلك ما يفعله الروائي المتمرس في صنعته  لكي يديم عمر أصحابها الذين غادروا الحياة قبل عشرات السنين ويأتي بهم كما لو أنهم يعيشون معك في زمنك هذا.
أو الذين جاؤوا من مخيلة المبدع حتى بدوا كأنهم شخصيات حقيقية لها قلب ينبض، تتنفس وتمشي وتتحدث وتصبح جزءاً من الحياة، وهذا ما فعلته ميسلون هادي في روايتها الجديدة (فكشنري) 
في أعمال ميسلون هادي جميعها تعيش مع الأحداث كأنك تعيشها، أو تعيش مع أبطالها وشخصياتها المهمشة، حياة متكاملة بكل عناصرها، أمكنة وبشر وحيوانات وشوارع وأشجار وورود، ومشاعر، وبعد كل عمل ستتساءل: ما الذي سيأتي بعده وكيف يمكن لميسلون هادي المتنوعة وغزيرة الإنتاج أن تقدم؟ لكنها تتحفنا بعمل مغاير وله نكهة لا تشبه نكهة العمل الذي سبقه، وفي رواية فكشنري أخذتنا هذه المرة رجوعاً لعشرات السنين، وظفت المعلومات توظيفاً متناسقاً، على الرغم  من الزمن الممتد منذ أواخر القرن التاسع عشر ولسنوات طويلة بعده، الا أن خيوط لعبتها الفنية لم تنفلت، بقيت مشدودة حتى النهاية، تنقّلت بنا من مكان الى مكان، ومن زمن الى آخر من خلال قصة (الأحمداني) منذ طفولته وحتى آخر يوم في حياته.رحلة طويلة، وممتعة على الرغم من أهوالها، إنها رواية أن تكون في هذه الحياة أو لا تكون، أن تعيش هذا العالم الذي جئت إليه وعندما تتركه فإن شيئاً منك سيبقى ليدلل على مرورك فيه، وجود غير محدود يعبر الى الأزمان ويعيش أكثر مما عشت على الأرض من خلال ما تركته، لكن روحك قطعاً ستدرك ذلك برغم غياب الجسد وابتعاد الزمن.
ميسلون هادي في روايتها الجديدة تسبر أغوار شخصياتها القادمة من زمن مضى، تُخرج الحكايات مثل حاوٍ متمكن من صنعته، تأتي الشخصيات مرة من الصور الفوتوغرافية، ومرة من التاريخ السياسي، وثالثة من بين الناس البسطاء، شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة، تدخل الى منزل السرد القصصي وتخرج بكامل لياقتها، هكذا يمكن للزمن أن يعود، ليس بحساب الساعات والأيام والسنين وإنما بهذه اللقطات التي جرى تظهيرها في غرفة مظلمة لم يكن مصوّرها يعلم بأنها ستعبر الزمان، ويأتي الساسة والجنرالات وتجار الحروب، المنتصرون منهم والمهزومون، أزمنة ولّت واندثرت بين طيات الكتب، أو في الذاكرة الجمعية التي سقط منها الكثير ولم تبق الا عناوين أو بعض حكايات تمر على الخاطر وقد نمر عليها بقراءة عجلى، لكن مع السرد الروائي تترسخ وتعيش وتعلن عن نفسها، أقصد السرد الذي تمسك به أصابع روائي فنان يعرف كيف يجمع الحكايات والمعلومات ويعمل منها خلطة لرواية ستبقى في الذاكرة ولا تبرحها.
هكذا استمتعت برواية فكشنري التي أعادتني لأزمنة قرأت عنها وشخصيات سمعت بها، وأتحفتني بشخصيات من مخيلة خصبة، فرحلت مع الأحمداني الطفل الذي كانت الأحداث تتراءى له قبل وقوعها، وشرار النار الراكض الأبدي الذي لا يسبقه أحد والمعلم الذي أحب الأحمداني على محبة امه ريحانة، وريحانة الأرملة التي مات لها خمسة أطفال لأسباب مختلفة وضاع منها السادس ،وزيتونة التي ولد أطفال السماوة على يديها، وشخصيات أخرى فاعلة ومؤثرة، رحلة طويلة وخطيرة وغريبة في بعض جوانبها، الى الصحارى الشاسعة والوقائع المحزنة والتيه والحروب التي تخلف حروباً وعادات الناس في الأزمنة الغابرة التي امتدت لزماننا القريب، هكذا تقبض الروائية على اللحظة التي كانت قبل عشرات السنين وتحيي موتها أو انطواءها في بطون الكتب، وتبقى الحرب على مدار الأزمنة هي العدو الذي لا تراه لكنك تعيشه بكل تداعياته المُرة لأنها تغير مصيرك ومصير من حولك وتغير شكل الحياة وتترك حتى بعد انتهائها بصماتها على المجتمع فتغير سماته، إنها تأخذك حتى من نفسك: يقول شرار النار على الصفحة 161 وهو يتحدث الى الأحمداني: عندما تقوم الحرب إما أن تبالي بها، أو تطمس بالخراء فلا تبالي بشيء، وحتى لو هِبْت صوت البنادق والمدافع وحاولت الهروب خوفاً فسيسحب الضابط طبنجته ويقتلك، فيجعل ذلك الجميع يهابون مثل هذه النهاية....  الحرب تشغلك عن نفسك فتصبح كالمأخوذ لا تعمل شيئاً سوى تنفيذ الأوامر، وهذه الأوامر لا تفكر بها أو تتساءل عن معناها، فداخل سورة هذه الرياح الشديدة لن تكون جزءاً من نفسك أو أهلك أو حياتك بل تكون ريشة تلعب بها الريح حتى تنتهي لعبتها.
إن رواية فكشنري، رواية وجود، أن تكون أو لا تكون، أن تعي ما لك وما عليك وما الذي تصنعه في عمرك المحصور بين الولادة والموت، أن تعيش الحياة بكل صراعاتها ولا تفكر كثيراً في النهايات، فعندما تبدأ عليك أن تستمر ولا تتوقف، لأن أجمل ما في الطريق كما يقول شرار النار هو بدايته، لن أحكي عن تفاصيل الرواية ورحلة الأحمداني ومعلمه شرار النار، لا أريد أن أحرق متعة القراءة لدى القارىء، سأترك له زمناً ممتداً من نهايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وبين طياته رؤى سريعة وخاطفة لما سيحدث بعد ذلك بعشرات السنين، لأن الزمن الذي يمضي لا يذهب الى العدم، كل ما يمضي سيعود بطريقة ما، من خلال صورة فوتوغرافية أو لوحة تشكيلية أو رواية مثل رواية
فكشنري.