العلامة والعبارة بين جاك دريدا وإدموند هوسرل

ثقافة 2020/01/04
...

د. رسول محمد رسول
لقد رحل جاك دريدا في سنة 2004، لكنه ترك وراءه تراثاً فلسفياً هائلاً في تأثيره على المشهد الفلسفي في القرن العشرين وما سيليه من عقود وربما قرون.. ولم يكن دريدا منفصلاً عن تاريخ الفكر الفلسفي القديم والحديث والمعاصر؛ وكان أفلاطون حاضراً في فلسفته كما كان أرسطوطاليس، وسقراط، وديكارت، وغيرهم 
من فلاسفة الغرب حاضرين، لكنّه وقد غمرته الفلسفة الألمانية لعقود طويلة عاشها حتى أنَّ بعض الذين كتبوا عنه قالوا: إنَّ أسلاف دريدا الألمان وهم كل من فريدريش نيتشه، وسيجموند فرويد، وإدموند هوسرل، ومارتن هيدغر؛ فهؤلاء هم الذين غذّوه بأهم عناصر أفكاره الفلسفية؛ بل هم الذين أسّسوا له بطانة خطابه الفلسفي الذي عرف به حتى الآن.
 
مُناظرة
من بين هؤلاء كان الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859 - 1938) حاضراً بقوة في خطاب دريدا الفلسفي، خصوصاً في بدايات عمله، وعلى نحو أخص في مقالته/ كتابه (La vois et le phénomène) والذي تُرجم إلى (الصوت والظاهرة) وقد كان صدر في سنة 1967، وهو عبارة عن نصوص تنتمي إلى المُناظرة مع إدموند هوسرل؛ بل مع الإرث الفينومينولوجي في مفاصله الإشكاليَّة الكبرى، وهي في الوقت نفسه مواضع فلسفيَّة لهذه المناظرة التي شغلت ما يزيد على العقد الأول تقريباً من فكر دريدا الفلسفي، لكنها نصوصٌ تتطرَّق إلى إشكالية مُهمة تلك هي إشكاليّة العلاقة بين اللغة والعلامة عبر فحص نقدي لما دار في هذه العلاقة من مناقشات كثَّفتها فلسفة هوسرل في كتابه (البحوث المنطقيَّة) تلك التي وضعها دريدا في كتابه (الصوت والظاهر). ولنتساءل عمّا يكون عليه هذا الكتاب في مسيرة التفكير الذي سار على نهجه دريدا؟
يعتقد مترجم الكتاب الدكتور فتحي إنقزو أنَّ هذا الكتاب يمثل التمرُّس التفكيكي/ التأويلي بالنص الفينومينولوجي، وهو محصلته القصوى في حدود الفترة الأولى من فكر دريدا، إذ انتقل دريدا فيه إلى أفق اللغة والى المنطق بعد أنْ تمرس في زمانية الفكر التاريخي ومعقولياته. كما أنه يمثل تحوّل دريدا إلى الاشتغال على مسألة الصوت والكتابة تلك التي توافر دريدا على إفراغها في كتابه الرئيس (الغراماتولوجيا) أو (علم الكتابة) لسنة 1967، كما أنَّ كتاب “الصوت والظاهرة” يقترب من موضوعات الكتابة والاختلاف فضلاً عن “الصوت” و”الظاهرة”، وهو ما يشير إلى انخراط (الصوت والظاهرة) ككتاب ضمن محور الاختلاف الذي بات في قلب الفكر الفلسفي المعاصر، وتبين انتماءه إلى جيل من المفكّرين أمثال: ميشيل فوكو، وجيل دولوز، وجياني فاتيمو، الذين اقترن عندهم التفكير بالاختلاف خارج النظام الميتافيزيقي الذي شغل الفلاسفة لعهود طويلة من جانبهم.
 
قراءة الأثر
ما هو معروف في الأدبيّات الفلسفية الهوسرلية أنها ذات صبغة بلاغية معقدة، خصوصاً كتاب هوسرل (بحوث منطقية) لسنتي 1910/ 1911. وفي هذا المجال سعى دريدا، قدر ما استطاع، إلى كسر الغموض لكنه وقع في أسرهّ ومع ذلك يبدو كتاب (الصوت والظاهرة) أنه تمرين على قراءة الأثر الفلسفي الهوسرلي من حيث إنه يحتكّم إلى بنية أصليّة واحدة ووحيدة تلك التي ينطوي عليها كتاب هوسرل (البحوث المنطقية) المُشار إليه فوق. كما أنه تمرين فينومينولوجي من حيث مسايرة الفيلسوف لإعلانات المنهج والتمييزات التي التزم بها وسائر الإجراءات التي لا يستقيم من دونها النظر الفلسفي في اللغة والدلالة وفي العلامة والمعنى. كما أنَّ إشكال الميتافيزيقا هو إحدى المراتب الأساسية لهذا التمرين، وهو يبلغ مع هوسرل ذروته كونه عالقاً بفكر على درجة عالية من الأهبة النقديّة فيما يرتئيه من التمرُّس الخاص بمنهجه أو بمناهجه، أي بجملة الردود الفينومينولوجية المتعالية في ما يتعلّق بوقع التراث الميتافيزيقي الهائل على نظرية
 المنهج. ولذلك تبدو الطريق إلى النص الفينومينولوجي متردِّدة بين الشرح والتعليق من جهة والتأويل من جهة أخرى؛ فهذا النص - كما يقول المترجم - لا يفصح عن نفسه إلا في لغته التي يُعتقد استصفاؤها من الطبقات الدلالية ومن المأثورات الميتافيزيقية المتداولة، فهو محتاج إلى جهاز مفهومي يفكِّك ما التأم من هذه الطبقات، وينفُذ إلى ما بينها من التفاوت والفرق ويعيد توليد الاختلاف في الهويّة الذاتية الصمَّاء للحضور من حيث هو مهد أصلاً بلا حضور مكين.  إنَّ كتاب (الصوت والظاهرة) هو تمرين على التفكيك منهجاً للفلسفة، وهو تدبير للغة هي غير لغتها؛ تدبير الظاهر منه أنه أقرب إلى الكشف
عن الرواسب. لقد تضمّن كتاب (الصوت والظاهرة) سبعة فصول ناقش خلالها دريدا سبعة موضوعات جاءت تكريساً لتأملاته في كتاب إدموند هوسرل (البحوث المنطقيَّة)، والموضوعات هي: العلامة والعلامات، ردُّ القرينة، الدلالة وحديث النفس، العلامة ولمح البصر، الصوت الذي يحرس الصمت،
 البدل الأصل. يبدأ دريدا بتحديد بعض المعاني الخاصّة بجملة من المفاهيم التي جاءت في معالجة هوسرل (البحوث المنطقة)، حيث يبتدئ هوسرل، والكلام لدريدا، بفكِّ الإغلاق، وكلمة علامة تصدق في اللغة المتداولة دوماً، وأحياناً في اللغة الفلسفيَّة، على مفهومين متمايزين؛ هما: مفهوم «العبارة» الذي درجنا على أخذه رديفاً للعلامة بعامّة، ومفهوم الإشارة، كما أنَّ العلامات التي تؤخذ على جهة الإشارة لا تعبِّر عن شيء اللهمّ إلا بملء وظيفة الدلالة فضلاً عن وظيفة الإشارة.
ويتساءل دريدا مع هوسرل عما هي «العلامة الإشارية»؟ ويقول: في البدء يمكن أنْ تكون العلامة طبيعيَّة فمثلاً تشير أخاديد المريخ إلى وجود مُمكن لكائنات عاقلة أو تكون العلامة اصطناعية مثل: النقش بالطبشور، وآثار النُّدب، وكل أدوات التعيين الاصطلاحي. أما في شأن «العبارة»، فقد تساءل دريدا أيضاً عن معناها قائلاً وحسب هوسرل إنها: علامة محمَّلة بالدلالة أو هي علامة عازمة على القول. وراح دريدا يوضّح معناها أكثر فيقول: إنَّ العبارة هي إخراج، أي إنها تجعل في الخارج معنى ما هو موجود أصلاً في داخل ما، كما أنَّ لفظ «عبارة» هو إدراج إرادي حاصل عن قرار ووعي قصدي من ألفه إلى يائه، كما أنه لا يمكن أنْ تحدُث العبارة خارج
 القول الشفهي.
إنَّ كتاب جاك دريدا (الصوت والظاهرة) ليس سوى تكريس تأمُّلي وتحليلي حقيقي لرؤية الفيلسوف الألماني إدوار هوسرل في مسألتين؛ «مسألة العلامة» و»مسألة العبارة»، وهو موضوع يدخل في حقل علوم السيمياء الذي أخذ يتطوَّر الآن على نحو فاعل بعد أنْ صارت السيمياء مدخلاً لكثير من الباحثين في العلوم الإنسانية؛ بل والفنية، والعلوم التطبيقية، حتى صارت «العلامة» في عالمنا المعاصر سلطة لها تأثيرها في مشهد الحياة السياسيَّة والفنيَّة والجماليَّة والمعماريَّة.