الرقص الدرامي.. مكوناته وطبيعته وتاريخه

ثقافة 2020/01/06
...

د. علاء كريم
 
الرقص الدرامي عملٌ حداثوي يخلق صورة جمالية متغيرة، أي تتحول مع الحدث لتنتج أفعالاً تعكس الواقع عبر زمن العرض، وسيولة لحظاته، ويعدُّ هذا الفن من أقدم الفنون، وذلك لأنه يخاطب الآخرين بلغة التفاعل الحركي والتعبير عن فكرة تلامس الواقع وتحاكي إشكاليته، هذا ما أكد عليه أستاذنا المرحوم الدكتور سامي عبد الحميد عبر إصداره (الرقص الدرامي) الذي تناول فيه بداية هذا الفن وآلية أداء المجاميع الشبابية للحركات الراقصة، فضلاً عن طرحه سؤالاً: لماذا استهوى الشباب وخاصة طلبة الفن هذا المسرح، ومن أين جاءت معرفتهم بتقنياته، وما هي مؤهلات المدربين؟
هذا الفن ومنه نوعية الرقص الدرامي له استقلالية خاصة؛ وذلك لأنه يرتبط بنظام مخطط له ومهيأ كون أنه يرتبط بشكل مباشر بالإنسان، وبالتالي كان هناك اهتمام به لتحول المسرح فيه إلى صور لغويَّة يعبر عنها بحركة الجسد، وذلك لما له من تأثير في المشاهد، اقترن بالانفصال والرغبة التقليديَّة التي تطرح مفاهيم حداثويَّة مرتبطة باشتغال عناصر العرض، برؤية فنيَّة متكاملة، وهذا ما أكد عليه "المؤلف" بأنَّ المجاميع التي تبنت الرقص عدته وسيلة للتعبير عن موضوعات مختلفة، وبوساطة أجساد المؤدين فقط، أو بمرافقة الموسيقى المختارة من مقطوعات أجنبيَّة في الغالب، أو مع القليل من الجمل المنطوقة التي تجسد هذه الحركات، والتي يعدها البعض خليطاً من رقص الباليه، والتمثيل الصامت، والرقص التعبيري، وما أطلق عليه رودولف لابان (الرقص الحر)، أو كما سماه فيالكا
 (الجمناستيك).
يخاطب الرقص الحر الجمهور بلغة الحركة من أجل التشاركيَّة مع المتلقي، ويعدُّ هذا اشتغالاً مشتركاً لخلق مشهدٍ إبداعي ضمن مساحة الحدث، أو الطقس الروحي الذي يرسم صورة الواقع عبر تقديم فعل معبر في مكان معين ولهذا المكان فضاء، يطلق على مكان الرقص اسم "حيز" أو "موضع"، كما يتناوله المؤلف، يقدم الرقص الطقسي في مكان ربما المعبد، أو في الطريق أو ربما في ساحة عامة، فضلا عن أنَّ حركات الراقص تأخذ حيزاً معيناً أو مسافة معينة تدخل في فضاء العرض، لتكون لهذه الحركة قصديَّة في التعبير، وهذه القصديَّة تأتي من معنى الحركة، والتقرب إلى الطاقة الإيجابيَّة لمشاركة الجميع ضمن الحس الجمعي، فقط في الحركة الانعكاسيَّة نشاهد خلو المشهد من القصديَّة لتأتي بنحو اعتباطي تلقائي كرد فعل على ما تتضمنه منظومة الاشتغال بكل عناصرها.
ترى سوزان فوستر في كتابها "قراءة الرقص"، أنَّ الرقص الدرامي تجسيد لخصائص داخليَّة وذاتيَّة لكنها جمعيَّة في الوقت ذاته، وهذا ما يؤكد أنَّ التعبير بالحركة الجسدية المنظمة يعدُّ دالاً عن قيم ينتجها المبدع بعيداً عن قدرته بالتعبير عنها بوسائل فكريَّة، كما يتم ابتكار أفعال لها قصديَّة لخلق معنى للوجود عبر اللغة والوعي الجمالي، ليكون العرض الدرامي الراقص تجسيداً للواقع بفعاليته وديمومته ذاتها التي تحدث بشكل له خصوصيَّة شعوريَّة للحياة نفسها، لتقدم رؤية فلسفية تنقل المتلقي من حالته الشعورية إلى الإبداع الفكري، والتفكر بعقل، وهذا هو الإبداع الحقيقي. كما أكد المؤلف في كتابه، على أنَّ بعض شعوب قارة آسيا، كـ "الشعب الهندي والشعب الإندونيسي"، قد اتخذت من الرقص مظهراً من مظاهر طقوسها، وهذا ما يعطينا دلالة على أنَّ حركات الرقص في ظل هذه الطقوس لها معانٍ دلاليَّة أنتجتها البيئة وفق نظام خاص وتقنيات معينة تعتمد الإيماءات المحاكاتيَّة، فضلاً عن وجود الرقص الطقسي الديني الذي يقدم من بعض الشعوب المختلفة على شكل رقصات احتفالية يؤديها أفراد القبائل والمجتمعات المدنية التي تؤدي عبر مشاركتها الوجدانية (فولكلوراً) يعتمد الأغاني والألعاب الشعبيَّة والحرف اليدويَّة.
في العصر الحديث حدثت تطورات كثيرة على فن الرقص وخصوصاً الفولكلوري ورقص الباليه ورقص الصالة، وفي مجال التصميم الحركي وتوزيعه للمجاميع حسب خطوط انتشارها، وهذا ما عمل عليه (رودولف لابان) في تجديد فن الرقص وتحريره من ضوابط الحركة المقيدة، كما قدَّمَ بحوثاً كثيرة تخص فن الحركة، فضلاً عن تقديمه استكشافات مختلفة في فن الحركة والأفعال غير الفنية والانثروبولوجية والسايكولوجية والسوسيولوجية.
على وفق ذلك، يمكن القول إنَّ الفلسفة التي تنقلها الحركة التعبيرية هي فلسفة العرض ذاتها، والتي تسعى إلى إظهار تقلبات الذات وظواهرها، لذا يجب أنْ تقدم الحركة التعبيرية وتوظف لإظهار الفكرة الفلسفية التي أثارت الجدل من دون أن تستثني علائق المعنى مع الوجود الذي إليه ترجع الفكرة، فالحركة يجب أنْ تحقق شكلاً درامياً على مستوى الحس (التعبير) والمكان
 والزمان.