عالية طالب
منذ بدء التظاهرات طرأ عدد من المتغيرات على حياتنا العامة واختفت بالتدريج كثير من الممارسات الثابتة اجتماعيا وثقافيا وتضررت مهن تجارية وصناعية وعقارية، وكأنّ الشلل "الوقتي" ظهر عليه التمدد الزمني فأصبح كل ما معتاد يخضع لعبارة مؤجّل بانتظار الوصول الى حلول سياسية تتعلق بالحكومة المرتقبة ومن يديرها.
توقف البرنامج الثقافي في اتحاد الادباء ومعه عدد من انشطة التشكيلات الادبية والفنية والثقافية والاجتماعية حتى وصل الامر الى ارجاء مواعيد زيجات وحفلات عامة وخاصة ومعها سفرات سياحية وبرامج ترفيهية... وكأنّ العراق قد دخل في الصمت الخاص ولم يبق إلّا الصوت العام وساحات التظاهر وما يستجد فيها.ولأنّنا مجتمع يجيد مشاركة الاخر في افراحه واحزانه فقد توافقنا جميعا على ان هذا السكون الخاص هو ظاهرة تضامنية مع الصوت العام، فلا يليق بنا الا ان نشارك العراق في كل ما يريد من تغيير ما دام الأمر يتعلق بمصلحة بلد عانى الازمات طويلا وما عاد الانتظار قادرا على ايجاد مساحة صبر مضافة، ولكن ان تتوقف الحياة الثقافية بهذه الطريقة المقتصرة على بعض جلسات شعر شعبي وفصيح في ساحات التظاهر دون ان تنشغل المؤسسة الثقافية بكل تخصصاتها في تحليل الواقع وتأثيراته ومدياته على الجيل الشاب والاجيال السابقة وعلى مستقبل العراق وبناه التحتية التي هي الفيصل الذي انطلقت منه التظاهرات وهي تنادي بإعادة التشييد والركائز الحقيقية لينطلق الوطن الى مساحة التطور الفعلي في مجالات تفتت تماما دون ان يهتم بها احد، ومنها مجال الثقافة والفنون والسياحة والاثار، هذا العراق القادر على انتاج جديده دائما استنادا الى عمقه الحضاري لا بدّ له ان يعمل على مهارة تصنيع اللحظة ولا يدعها تهرب من يديه دون ان يقدم للزمان والمكان ما يسهم في اعادة صهر الحياة دون ابطاء وانتظار انفراج الازمات.. اذ دائما ما تعطي الازمة مفتاحا لخلق حالات إبداع متجدد ومميز يحمل وسام الأسس الصحيحة التي برعت في استخدام الصعاب وتطويعها لانتاج ما عجزت عنه في زمن الصمت
المتراخي.
الحقوقية "ميشيل لبارون" والتدريسية في معهد تحليل النزاعات وحلها بجامعة جورج ميسون في فيرفاكس - فرجينيا. وهي من أدارت مشروع التعددية الثقافية وتسوية المنازعات في جامعة فيكتوريا. تقول عن الثقافات المختلفة: "أنهار تحت الأرض تجري عبر حياتنا وعلاقاتنا، مما يمنحنا الرسائل التي تؤدي إلى تكوين تصوراتنا ومساهماتنا، وأحكامنا وأفكارنا حول الذات وحول الآخرين". وتشدد على ان "تأثير الثقافة له من القوة ما يمكنه من حل الصراع بطرق لا يمكن إدراكها
حسيًا".
ولكون الثقافة ومساراتها تتسم دائما بالمرونة وبإمكانها أن تفعل ما تعجز عنه السياسة ولغة السلاح والتعنت بالرأي ومصادرة المختلف، وهذا يأتي من قدرتها الوصول الى اعماق الانسان واستخراج المناطق القادرة على التواصل لتحقيق الحوار الواعي المنفتح.
لذا فإنّ على كل الابواب الثقافية الموصدة الان ان تعاود انشطتها لتحقق التوأمة الحقيقية بين العقل والتفكير السليم وبين الاندفاع واللغة المتشنجة وصولا الى انتقال مستويات الحوار الى التطبيق الفعلي لصالح مجتمع مأزوم وينتظر الانفراج الايجابي قريبا.