بعد أن انتشر الفساد السياسي، متمثلا في الفساد الإداري والمالي، وأصبح ظاهرة سلوكية تحكمها منظومة شبكية كبيرة، قادرة على حماية نفسها والعمل بشكل أو بآخر، ضمن مجالات واسعة وصلت إلى حد كبير من العلنية.
من هذا المدخل السريع الذي يمدّنا بعوامل عديدة لمناقشة واحدة من الأوليات الأساس في حركتنا الثقافية والفنية التي أقدمها على شكل سؤال: كيف نصنع مهمات الخطاب الإصلاحي للعملية الثقافية والفنية..؟
أولا علينا إقرار حالة مؤسفة وهي أن دور المؤسسة الرسمية المسؤولة في المقام الأول في هذا المجال، وهي وزارة الثقافة التي تعيش غيابا واضحا منذ عام 2003 أو لنقل، بأقل قسوة، تعيش ضعفا وتراجعا واضحا غير قادرة على تجاوزه.
مهمات الضرورة
أرى أنّ الاحتجاجات الراهنة يتوجب عليها الانتباه لظاهرة الفساد في التفكير والسلوك، التي تشكل دعامة أساسية في بنائية المجتمع الذي تتطلع إليه، تماما مثلما هي تطالب بالنظام الذي يتفق مع مطاليبها المشروعة، التي تعمل على خلق منظومة سياسية جديدة تعمل على بناء وطن يحقق القيم الحقيقية للإنسان، ومن ضمنها المحمولات الثقافية والفنية التي هي عنصر من عناصر بناء الفكر الإنساني.
إدراك الواقع
تتمثل واحدة من مهمات الخطاب الإصلاحي في فهم الواقع الجديد بصيغته الإدراكية، وليس بالفهم العام، ويتطلب هذا الإدراك وضع خواص وسمات التغير متمثلة بكل ما له علاقة بالبناء الثقافي والفني. هنا يتحتم وضع حالتين مهمتين هما: الإدراك الفكري والإدراك النفسي. وباجتماع هذه العناصر التي ترسم مدخلا رصينا ومتماسكا في كشف الفساد في السلوك وفي عملية التفكير، التي تظهر ملامحها في النفس الأنانية والمهزوزة والهاربة من تحمل المسؤولية الأخلاقية والركون إلى تبريرات عدم القدرة على مواجهة العدو الشرس، وبهذا تفقد الأمل والبقاء في أماكن المراوحة والاستسلام.
هنا يكون أمام الحركة الثقافية والفنية أن تقدم مشروعا لدراسة الواقع (الاجتماعي ــ السياسي) وتشخيص مفاصل الضعف، بروح نقدية، يحكمها الجدل الحقيقي الهادف إلى تفكيك كل العناصر الفاعلة في تأصيل العملية الإبداعية. هنا يتوجب، في المقام الأول، نقد البيئة التنظيمية للحركة الثقافية والفنية، فمن خلالها يتم بناء شبكة تنظيم وهي الجسد الفكري والسياسي (للحركة) من أجل خلق وحدة متجانسة ما بين النظرية والتطبيق. وهذا في تصوري يوصلنا إلى كشف إشكاليات الحركة والعناصر المنضوية تحت لوائها. ولنا تجارب مريرة أفرزتها مراحل الثمانينات والتسعينات في تحريف وتهميش المدنية وفي تحول العام إلى الخاص، متجسدا بصوت واحد يحكم كل الأصوات، ومازلنا نعيش بعضا منها في الألفية الثالثة، خاصة ظهور حالات قلقة تتجسد على شكل ديمقراطية وحرية رأي وفكر هشة وغياب الحركة النقدية الجريئة وشيوع مفاهيم (دينية) تستغل كغطاء لتمرير الفساد عبر الثقافة والفنون.
مهمات الوعي الاجتماعي
واحدة من المهمات العاجلة للحركة الثقافية ــ الفنية هي صناعة الجمهور (مشاهد ــ قارئ)، بعد أن فقدنا كل العناصر الجاذبة له، بما فيها صناعة النتاج الثقافي الذي يأتي بعيدا عن الدراسة الحقيقية لمتطلبات ما يجب أن يقدم الآن، ومتجسدة فقط بالسمات العامة للنتاج تتمثل في الميل على التصنع والتكلف في فهم دور الفكر والمعرفة ومهماتها في العملية البنائية للمجتمع المتقدم.
إنّ ممارسة النقد والنقد الذاتي يقربنا كثيرا من خلق أجواء جديدة لعملنا، كما أننا نكون بهذه الطريقة قد ابتكرنا أسلوبنا الخاص في كشف أخطائنا وتجربتنا، وانطلقنا برؤية جديدة ترفض الخوف والجمود وتعمل على خلق دعائم وركائز تمنع تسرب الفساد لهذه الحركة التي، بالضرورة، يجب أن تكون قائدا للحركة الجماهيرية المتطلعة لفكر تنويري يسهم في بناء إنسان جديد يعرف، بعد تقديم منظومة من الأفكار والمعالجات والمناقشات لمفاهيم الإصلاح، مثل الديمقراطية الحقة، المشاركة الانتخابية، فصل السلطات، الدولة المدنية، حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وبذلك تكون الثقافة هي التي تتصدر خط المواجهة ضد كل الأجندات العاملة على تهميش وتدمير دور المثقف، الذي يتطلب منه القفز، بوعي وإدراك، فوق حواجز الفشل والإخفاق، ومغادرة الهروب نحو المواجهة الفاعلة، تأكيدا لحضوره الذي يحب أن يكون عليه بعيدا عن الانحسار والركون إلى انتظار ما يفرزه الواقع، لأن هذا يعد شكلا من أشكال التقوقع وفقدان رؤية الأشياء
مبكرا.