الأعالي تُعيد صياغة الأشلاء

ثقافة 2020/01/12
...

سعد صاحب 
 
 
قصائد الشاعر قاسم شاتي فوضى منظمة خلّاقة بشعريتها المدهشة، تحتوي على الكثير من الصور الشعرية الخاصة، والاشكال الجديدة الرافضة للتنميط والتقليد، متمرّدة على كل تصنيف، هي خلطة سحريّة من السرد والنثر والشعر والشذرة والفلسفة والعلامة، وبجهد فردي لا يتكئ على محاولات الاخرين. وعلى مستوى اللغة فإنّها تعتمد اساسا على الايحاء، وقريبة من الغموض والابهام والنقض والاحتمال، ومحطمة بازميل الحداثة كل الدوائر الضيقة للافكار والاساليب والرؤى والدلالات القديمة.
جملة الشاعر شاتي تقترب من الحلم، ومن خيالات مجنونة ترفض الانصياع للواقع الكسول البليد، وتحلّق بجناح فوضوي في الاعالي المزدحمة بصقور الكلام الناذرة نفسها للجنون، والى كل ما يثير الاستفزاز والخوف والارتباك والذهول، ومجافاة الاهواء الانية، والاعتماد الكلي على غرابة التصوير والتكنيك والمفارقة والمعرفة والترميز 
والالتباس.
(أعرف أني خارج المكان / اعرف اني داخل المكان / اعرف اني داخل المهزلة / فكيف لي ان اجعل من هذه الكلمات جسدا / يتحرك في كل الاتجاهات / ويمنحني  سر اضطراب الوقت وقلق المسافة / كيف لي ان أبدا واعيد صياغة اشلائي.
الزمان حتى لو كان عراقيا في القصائد، فهو انساني في الوقت نفسه، يصلح لكل الازمنة التي تضج بالحروب والثورات والمجاعات والموت المتكرر لاشكال متعددة. والمكان حتى لو كان محليا يعبق برائحة التراث والعراقة والاصالة، فهو عالمي تختفي فيه الجغرافيا والحدود والمصالح والفصول وغياب التضاريس،  وبالامكان استدعاء أمكنة خيالية غير مرئية بالعين المجردة، او انها موجودة في حضارات مندثرة.
( بيتنا مقفل والعصافير النافرة من انين الشجر/ غالبا ما تهز الشبابيك/ وتلاعب شجر الرمان وثمار الزيتون/ مشيرة برأسها الى تلك الفصول الغامضة/ والعيون المطلة من شرفات النارنج/ كثيرة هي الاسئلة وبيتنا القديم/ لم يزل مقفلا/ وبيوت الجيران عربات وسفر).
تكمن جودة هذا الشعر المتغلغل في الطبقات العميقة من النفس البشرية المأزومة، انه يشبه الاوامر العسكرية الصارمة، ومن الصعوبة مخالفة ما يريد منا في الاستسلام الى النواح، او مشاركة الغائبين عن الوجود في السعادة والابتسام والامل ونسيان القلق، واختزان كل ما يفيد في الدواخل، املا بالوصول الى مستويات عالية من الوئام، والاسترخاء والهدوء والنوم على فراش من حرير الكلمات، بالرغم من الاحباط والخيبات والانكسار 
والنفور.
(اهبط كاليقظة بين اظافر الغفلة والانتباه/ نازلا من شرفة الجرح/ الى زنزانة الكلام في مدائن الحجر/ علّي أرى رابعة العدويّة/ تخرج من حانتها مرة أخرى/ أو أرى الحلاج كالنجمة البيضاء يغسل وجه البحر).
المحور الرئيس في كتابات الشاعر قاسم شاتي، هو الضياع الذي طال الانسان وقام بنخره بقسوة من الداخل، والخراب الذي تفشى في مدن الطفولة الحالمة، فاصبحت موحشة خالية من الاصدقاء والاهل والاحبة، اما الندمان القدامى فبعضهم مات، وبعضهم تدثر بغربة جديدة لا تطاق.
(حسبت ان بيتي الكائن في اقصى الطريق/ أزوره متى شئت/ واختصر المسافات قبل انهيار الثلج/ وبعد افتضاح الماء في حضن التراب/ يقاسمني ذاكرتي وفوضى الاصدقاء / القادمون من حانات ابي نؤاس / يغنون / يرقصون / يرسمون فضاءات اخرى / للمقاهي الغافية في ليل الشتاء / وارتعاش الضوء في ازقة الحيدر خانة).
شاتي صوت مختلف لما متفق عليه ومعروف، فهو لا يبالي بطول الجملة او قصرها، ولا يهمه سواء كانت موفقة او خائبة بمسعاها الشعري المرجو منها، وكل ما يريده من المفردة ان تكون متفجّرة، حاملة اكثر من معناها المعتاد، وان تشاكس المعهود ولا تطمئن الى المباشر الذي لا يلبي متطلبات الحداثة.
(وحدنا اللاعبون / وحدنا الحاكمون / وحدنا الفائزون بالخسارة / لا شريك يقاسمنا الامارة).
يبتعد الشاعر عن الكتابات الشكلية، ذات البنية القديمة والايقاع المنضبط المحدد بحساب زمني دقيق لا يمكن تجاوزه مطلقا، ويقترب كثيرا من عوالم الاشراق، والطواف بازمنة متعددة في وقت واحد. زمن مسيطر من قبل الشاعر، وزمن اخر منفلت يتشظى في القصيدة، وزمن جامد له هيكله الخاص وموسيقاه الصامتة، وزمن بدايته تختلف عن الخاتمة، وكل هذه الازمان تسبح في مدار الشعر المفتوح.
( اوهمت بان الوقت اضيق من زاويتي / وحقائبي اكبر من كل زوايا الوقت / فوجئت ان تفاصيل الزمن غارقة في نقطة التلاشي / اصفع ذاتي مرتين / مرة حين هوت مآذن الكلام / ومرة حين ينهمر الدمع على احذية الجليد).
لشاعرنا مزاجه الخاص باعادة تشكيل العالم بحسب رؤياه الوجودية للاشياء، منتقيا بمهارة وذكاء العناصر الشعرية المانحة للقارئ افكارا جديدة لا تموت، معتمدا على الحس الفني العميق المنظم لحركة الابداع، ولولا هذا الشعور الخفي لا يمكن السيطرة على العمل الشعري المتمرّد حتى على من يكتبه.
(أزرق كان مساء البارحة / لما رأيت الريح شاردة / بين عيوني والقمر / والشتاء لا يستفيق في آنية الجمر / وسرايا  الحديد لا تخرج من قبة الفولاذ / ولونها الكاكي أرّقني زمانا / وزمانا طار بي خلف السدود المستحيلة).