الجدل الفقهي بشأن إقرار نظرية خاصة بالإثبات الجنائي

العراق 2020/02/03
...

الدكتور مازن خلف ناصر
إن السؤال الذي نود أن نطرحه الآن هو هل هناك مبررات مهمة لإقرار نظرية خاصة بالإثبات الجنائي تميزه عن الإثبات المدني؟ في ذلك اختلف فقهاء القانون الجنائي، ويمكن بلورة هذا الخلاف في اتجاهين رئيسين:
الاتجاه الأول:
يرى وجوب العمل على توحيد جميع قواعد الإثبات في شقيها الإجرائي والموضوعي دون تمييز بين احكام القضاء الجنائي والقضاء المدني، وذلك لأنه في كلا الدعوتين الجنائية والمدنية الأمر يتعلق بواقعة منازع فيها أو حق منكر وجوده، مما يجعل الطرف المدعي يحاول بشتى الطرق اختيار ما يراه مناسبا من الوسائل لإثبات ذلك الحق أو إقرار تلك الواقعة، بينما يلجأ الطرف الثاني الى دفع ذلك، ومن ثم اتخاذ كل ما من شأنه تأييد وجهة نظره، بالإضافة الى أن ما يهدف إليه المجتمع سواء في الدعوى الجنائية أو الدعوى المدنية هو إظهار الحق وإثبات حقيقة الواقعة المتنازع عليها، كما لا ننسى أن القاضي الجنائي قد يلجأ أحيانا الى قانون الإثبات في المواد المدنية لاستلهام بعض أحكامه وقواعده.
 
الاتجاه الثاني: 
يرى ضرورة إفراد قواعد اثبات مستقلة لكل من الدعويين الجنائية والمدنية، وذلك لعدة اعتبارات منها أن موضوع القانون الجنائي هو تنظيم سلوك الأفراد، ووضع القيود اللازمة والمحددة لسلوكهم، وذلك بغرض ضمان عدم ترتيب أية أضرار للآخرين أو للمجتمع من جراء ذلك، وهو يتوسل من اجل ذلك تحقيق تلك الغاية بالجزاءات الجنائية التي توقع على كل من يخالف قواعده.
في حين أن موضوع القانون المدني يتمثل في تنظيم حياة الانسان باعتباره فردا أو عضوا في أسرة، وهو يتوسل من أجل تحقيق ذلك بالجزاءات المدنية التي تأخذ شكل البطلان أو الحكم
 بالتعويض.
وتترتب على هذا الاختلاف بين القانونين آثار مهمة تميز الدعوى الجنائية عن الدعوى المدنية، ويتجلى ذلك في عبء الإثبات الذي يتميز بسمات خاصة في الدعوى الجنائية بوصفها ترمي الى حماية المصلحة العامة، وما يقتضيه ذلك من قيام الادعاء العام باعتباره ممثلا للمجتمع، وذلك من خلال ممارسة جميع إجراءات مباشرة الدعوى الجنائية وتحريكها بصفة عامة بمقتضى الحق المجرد والخاص الثابت لها أمام الدعوى المدنية فإنها تهدف حماية المصلحة الفردية في المقام الأول ومن ثم يتولى الأفراد مهمة القيام بعبء
 الإثبات.
 ومن ناحية أخرى يظهر أثر هذا الاختلاف في طرق ووسائل الإثبات التي يلجأ إليها كلا القانونين، فلما كان القانون الجنائي يهدف إلى معرفة الجاني الحقيقي حتى يمكن توقيع الجزاء العادل عليه، فإن معظم التشريعات الجنائية تميل الى الأخذ بنظام الإثبات المعنوي كأساس للإثبات الجنائي، حيث يتم تخويل القاضي سلطات واسعة تمكنه من تكوين عقيدته والحكم في الدعوى، ومن ثم يتسم دور القاضي الجنائي بالإيجابية، وذلك عكس الحال في القانون المدني، فهو يهدف إلى إظهار الحق المتنازع حوله وتأكيد ثبوته لأحد الأطراف، وفقا لما تقتضي به أوراق الدعوى وما يقدمه الطرفان من أدلة، ومن ثم يتسم دور القاضي المدني بالسلبية، وفي اعتقادنا أن القول بأن يكون الإثبات الجنائي نظريته الخاصة به هي الرأي الذي ينبغي أن يصار إليه وهو الأولى بالإتباع، الأمر الذي يقتضي حرية القاضي الجنائي في الاستعانة بجميع طرق الاثبات للبحث عن الحقيقة والكشف عنها، فهو غير مقيد بطريق معين من طرق الإثبات، بل له أن يكون اعتقاده بثبوت الجريمة من جميع ظروف الدعوى، لأن الوقائع الجنائية ليست مما يحرر بها عقود أو يمكن الحصول من الجاني على اعتراف مكتوب بها مقدما، فلم يبق إلا إثباتها بجميع طرق
 الإثبا. 
فضلا عن حريته في تقدير عناصر الإثبات التي يستمد منها اقتناعه، فهو الذي يزن قوة الإثبات المستمدة من كل عنصر بمحض وجدانه فيأخذ بما تطمئن إليه عقيدته ويطرح ما لا يرتاح إليه ولا رقيب عليه غير ضميره وحده، لكن ينبغي أن تكون عقيدة القاضي مستمدة من أدلة مأخوذة من الأوراق ووليدة إجراءات مشروعة لا تتجافى مع العدل أو المنطق، ومن هنا كان الالتزام بتسبيب الأحكام ضمانة أساسية استلزمها القانون للعدالة
 الجنائية.