موانع الفهم!

الصفحة الاخيرة 2020/05/03
...

جواد علي كسار
 
يتلخّص مفهوم موانع الفهم بفكرةٍ مؤدّاها، أنّ النص القرآني الوحياني يُحاصر من خلال الأدبيات القرآنية نفسها، حين يتحوّل الإنتاج الإنساني في علوم القرآن ومنهجيات التفسير والتفسير نفسه، إلى سورٍ عالٍ يحجب النصّ القرآني ويمنع فهمه.
لا نعرف على وجه التحديد متى ظهر عنوان «موانع الفهم» في الدراسات القرآنية، غير أنّ الاستقراء الناقص يدلنا على أنَّ أبا حامد الغزالي (ت: 505هـ) ربما كان أوّل من نظّر له وتناوله على نحوٍ منهجيٍ منظم، ثمّ مضى التنظير له في الدراسات القرآنية والفكرية الحديثة.
على سبيل المثال، عرض الفكر المعاصر في العالَم العربي وإيران إلى حدٍّ ما، منظوراً لفكرة موانع فهم القرآن، لكن انطلاقاً من اختيارات حركة هذا الفكر ومنهجياته الحديثة والمعاصرة.
لم يكد يتخلّف اتجاه فكري من الاتجاهات التي ازدهرت في السنوات الأخيرة، عن نقد فكرة موانع الفهم التي تخفي النصّ وتطمسه أو تتحوّل على الأقل إلى سلطة موازية لسلطة النص ذاته، حتّى تحوّلت هذه المسألة إلى أطروحة رئيسية في مشاريع ضخمة انطلقت تحت عنوان قراءة التراث، سواء في نزعة تحليل الخطاب (الخطاب هنا بمعنى نظام الفكر) عبر استعمال مكثّف وأحياناً مضطرب للتفكيك، وكذلك النَزعة النصية والهرمنيوطيقية، أو نزعة تعدّد القراءات أو نزعة الإسلاميات التطبيقيّة المقارنة، حيث تقع في هذا السياق مشاريع محمد عابد الجابري، ومحمد آركون ونصر حامد أبو زيد وبعض أعمال حسن حنفي وما أثارته من أصداء نقدية واسعة يمكن متابعتها في أعمال علي حرب وغيره من الناقدين، مع ما رافق ذلك كلّه من إقحام عدد ضخم من منهجيات العلوم الإنسانية والمصطلحات الحديثة والمعاصرة، التي تبدو أحياناً متصادمة فيما بينها، وميل كاسح للغموض المتعمد والتباري في لغة عجيبة ورموز غريبة، ورغبة جامحة في إثارة الصخب والطنين، على حدّ تعبير صاحب كتاب «المرايا المحدّبة: من البنيوية إلى التفكيك».
نكتفي بنص يعود لأحد رادة ما يُطلق عليها بالإسلاميات التطبيقيّة وطليعة من يُنادي بتوظيف كامل للعلوم الإنسانية الغربية في الدراسات الإسلامية، جاء فيه: «يمكن أن نُقارن هذا الوضع بما حصل عندنا للنص القرآني ذاته. فالنص القرآني أيضاً ولّد عشرات التفاسير والأدبيات التأويلية منذ ظهوره وحتى اليوم، أي طوال عدّة قرون من السنين. وتراكم التأويلات في كلتا الجهتين يشبه تراكم الطبقات الجيولوجية للأرض فوق بعضها بعض. فنحن لا نستطيع أن نتوصّل إلى الحدث التأسيس الأوّل، إلى الحدث التدشيني في طراوته وطزاجته الأولية إلا إذا اخترقنا كل الطبقات الجيولوجية المتراصّة، كل الأدبيات التفسيرية التي تحجبه عن أنظارنا. فالنص الأوّل أو الحدَث الأول مطمور ومغمور تحت هذه الطبقات التي تحجبه عنّا فلا نستطيع أن نراه إلا من خلالها. يحصل ذلك إلى درجة أنّه من الصعب جداً التوصل إليه بالذات، إلى درجة أننا لا نعرفه وإنما نعرف الصورة الإسقاطية المتشكّلة عنه» (الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص232 ـ 233). وسط هذه الموانع لا يمكن العودة على النص القرآني والتعامل معه طرياً طازجاً، إلّا بالتحرّر من موانع الفهم أو التخلي عن الحُجب بحسب تعبير الأقدمين.