لعبة المعنى!

الصفحة الاخيرة 2020/05/04
...

 جواد علي كسّار
 
كنت أودّ أن أطلّ على الواقع الحاضر للحياة الإنسانية من خلال مقولة لروجيه غارودي يصف بها هذا الواقع بأنه صار «عالم بلا إنسان!» بيد أنني عزفت عن ذلك عند مراجعتي لكتاب الناقد العربي علي حرب: «لعبة المعنى: فصول في نقد الإنسان». تعود علاقتي مع كتابات الناقد اللبناني القدير علي حرب إلى أول كتابين أصدرهما عام 1985م، الأول تحت عنوان «مداخلات» وهو مجموعة من الدراسات النقدية المعمّقة في أعمال محمد عابد الجابري وحسين مروة وهشام جعيط وعبد السلام بنسعيد العالي وسعيد بنسعيد؛ والثاني هو كتاب «التأويل والحقيقة».
لم أعبأ بالكتاب الثاني بل كان جلّ اهتمامي وقتذاك بالكتاب الأول «مداخلات» نظراً لموضوعه ومنحاه النقدي الجادّ، الذي واجه به أطروحات لم يجرؤ على مواجهتها كثيرون، وسط أجواء الترحيب التي أحاطت كتابات الجابري. كنت أتوقّع لعلي حرب مستقبلاً كبيراً على الساحة الفكرية العربية يحوّله من ناقد إلى مؤسّس في الفكر، خاصة أنّ نقده نفسه يستبطن الكثير من التأسيس حتى وهو يمارس النقد.ما كان يرجّح كفة علي حرب لتحوّله من ناقد إلى مؤسّس لا يقلّ كفاءة في مهمّة التأسيس عن مهمّته كناقد، هما الرصانة والجدية اللتان ظهرت بهما أطروحاته النقدية الأولى، والأهمّ من ذلك هو امتلاكه للون من المعرفة الفكرية لا يحسنها أغلب من نقد أعمالهم، ولا يزال يفتقدها كثير من الرموز في الساحة الفكرية العربية، أعني بها معرفته الجيدة بالتشيع والتصوّف أو العرفان، واغترافه من هذين المعينين مادّة فكرية مهمّة برزت واضحة في دراساته النقدية الأولى.
لكن علي حرب لم يمض على الطريق ذاتها التي اختطّها لنفسه في كتاب «مداخلات»، وربما كانت الشهرة التي حظي بها هي في طليعة أهم الأسباب. مع ذلك بقيتُ على متابعته حتى ليمكنني الادعاء بأنني اطلعت على جميع كتبه بعد كتابَي «مداخلات» و«التأويل والحقيقة» حال صدورها في أغلب الأحيان، بما في ذلك كتابه «لعبة المعنى» الذي ربما مرّ عليه في مكتبتي أكثر من ربع قرن، مكتفياً بتوريقه عن القراءة الدقيقة المتأمّلة.
لا أملك إلاّ أن أسجّل أسفي، فالكتاب يستحقّ القراءة منذ لحظة صدوره، وما هو من الكتب التي يُرمى بها في جانب المكتبة أو تُهمل قراءتها وتُترك للصدف، ولا يزال لم يفقد ألقه ومعناه، هذا إن لم تزد أهميته حوادث كورونا من حولنا.كتاب «لعبة المعنى» مملوء بالأفكار، بل تكاد المعاني تتدافع من كثافتها، وهو عصيّ على القراءة لازدحام تأملاته، حتى برغم اللغة السهلة الواضحة التي يكتب بها علي حرب في الأغلب.
بعد أن انتهيت من الكتاب قدّرت أن مؤلفه ربما دوّنه وهو في خلوة تأمّل وانقطاع، من تلك الخلوات التي يشتهر بها العرفاء والصوفية، كما خامرتني فكرة أن يكون علي حرب قد انقطع، لتسجيل تأملاته التي سجّلها في هذا الكتاب عن الإنسان والعالم والوجود، في موسم تفرّغ عبادي، كموسم شهر رمضان، تُعين أجواؤه على الصفاء الروحي وتؤثّر من ثمّ في دقة الفكرة والملاحظة، وتتحوّل إلى فرصة للتأمّل وما يُطلق عليه في لغة الثقافة، العودة إلى الذات، ورؤية الغرب والوجود والعقل والإنسان والحضارة والتقدّم بمنظار أكثر واقعية وأقلّ طوباوية.
لقد استغرقت المقدّمات أغلب المساحة، وفي ذلك نفع مرجوّ للقارئ كي يعود للكتاب بنفسه، وما ينثره قلم المؤلف من لُمع هي أكثر صلة بواقع الإنسان هذه اللحظة، منها كمثال: «فالإعلان عن موت الله يحمل معه موت الإنسان نفسه»!.