عقاب الآخرة

الصفحة الاخيرة 2020/05/08
...

حسن العاني 
 
لا أدري ما الذي جعلني أفكر أنَّ أفضل وسيلة للخروج من الضائقة المالية التي كنت أمرّ بها في سبعينيات القرن الماضي، هي افتتاح أسواق جملة لبيع المواد الغذائيَّة، ومثل هذه الفكرة غريبة تماماً على معرفتي وتجربتي الحياتية، وبالتالي فإنَّها أقرب ما تكون الى ورطة كبيرة وخسارة مؤكدة ويبدو أنني وقعت تحت تأثير جاري (أبو سعد) وعروضه المغرية، فقد كان الرجل تاجراً مرموقاً من تجار المواد الغذائية في سوق الشورجة، وحثني على افتتاح محل للبيع بالجملة في منطقتنا السكنية، وهو الذي يجهزني بكامل احتياجات المحل، ولا أظن أنَّ هناك إغراءً أعظم من هذا الإغراء، وزاد جاري في كرمه حين اتفق معي على أنَّ أعيد له أية بضاعة (ثقيلة) لا رواج لها في منطقتنا!
وهكذا بعت مصوغات زوجتي واقترضت من هنا وهناك، وحصلت على محل في مكان مناسب، وهيأت له الرفوف والديكورات والكهربائيات على أفضل وجه ممكن، وأبو سعد معي خطوة بخطوة، يقترح ويوجه ويرتب، واضعاً خبرته الطويلة ولمساته التجارية على أركان المحل، حتى إذا انتهينا من كل شيء قام الرجل جزاه الله خيراً عني وعن المحتاجين، بجلب البضاعة من الشورجة بنفسه، واستأجر عاملين على حسابه، وقمنا بتوزيع البضائع وتنظيمها تحت إشرافه وامتلأت الرفوف بكل ما يحتاج إليه المشتري، وأبو سعد حريص على وضع ورقة بالسعر على كل بضاعة، الى أنْ اعتاد على الأسعار!!
صباح اليوم الثاني، وهو أول يوم نفتتح فيه المحل (وكان ابني يساعدني بالحدود التي يقدر عليها، فهو ابن خمس سنوات)، بلغت المبيعات قرابة (85) ديناراً، وهو مبلغ متواضع جداً على محل للجملة، ولكنه طبيعي في الوقت نفسه، فالمحل جديد، وليس لديه زبائن يتعاملون معه، وصدق تحليلي- أو بالأحرى تحليل ابي سعد- لحركة البيع الضعيفة، ففي اليوم الرابع بلغت مبيعاتنا (323) ديناراً، وقبيل الغروب، دخلت إحدى السيدات المحل، وراحت تقلب نظرها بين البضائع، كانت سيدة جميلة – إنْ لم يخدعني الماكياج- وتبدو عليها آثار الترف والنعمة، وهي تحمل بيدها حقيبة كبيرة للتبضع، ومن دون أنْ (تدقدق) في الأسعار على عادة معظم النسوان بدأت تملي عليّ طلباتها (لب جوز – هيل – شاي – لوز – علب لحم وأسماك وأجبان... الخ)، وأنا، أهيئ البضاعة، وأدونها في (وصل) كما يفعل باعة الجملة، ووصل المبلغ الى (92) ديناراً، فأكرمتها بالدينارين واستوفيت (90) ديناراً فقط، وكانت في غاية السعادة وهي تشكرني، وكنت أكثر سعادة، وساعدتها في حمل الحقيبة واستئجار (تاكسي) لها، وحين عدت سألني ولدي (بابا: أشو هاي المرة ما نطت فلوس الجكاير؟!)، فالتفت فوراً الى خانة السجائر، واكتشفت (10 تكات) من النوع الأجنبي مفقودة، يبلغ ثمنها (60) ديناراً، وأدركت بعد فوات الأوان، أنها سرقتني في أثناء انشغالي بالوزن وتجهيز المواد، فقلت له غاضباً (ليش ابني ظليت ساكت؟)، أجابني ببراءة (بابا ماكو داعي، ما طول حرامية، الله يذبها بالنار)!!، هززت رأسي وابتسمت حزناً، فمن أين لطفولته أنْ تدرك إنّه قد رمى والده في النار...