{ ثلاثيَّة} بازوليني المرحة

الصفحة الاخيرة 2020/05/13
...

علي حمود الحسن
 
أتاحت لي العطلة القسريَّة مراجعة الكثير من كلاسيكيات السينما، التي أنستني مشاغل الحياة مراجعتها، لا سيما أنَّ الكثير منها شاهدته من خلال أشرطة الفيديو المستنسخة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، منها: رائعة المخرج الإيطالي بيار بابلو بازوليني المعروفة بـ"ثلاثيَّة الحياة" التي تضمنت "الديكاميرون" (1971،)، و"حكايات كونتربري" (1972)، و"ألف ليلة وليلة" (1974)، وقد يبدو هذا الاختيار مغامرة لأي مخرج، إلا بازوليني فهذا المثقف الاستثنائي الشرس والصلف والمتمرد على الرأسمالية وتمظهرتاها الفاشية والمسكون بهموم وآمال الفقراء وجد في هذه الحكايات الشعبية والى حدٍ ما "المدنية" وتنوعها، مادة دسمة لأفلمتها وتوظيفها من أجل تعرية هيمنة الكنيسة وأصحاب رؤوس الأموال الفاسدين، وعلى الرغم من هيمنة الايروتيك في الأفلام الثلاثة، بوصفه عودة الى الطبيعة بمفهوميه د.ه. لورنس، حيث النفس البشرية على سجيتها، بعيداً عن الزيف والامتهان والاستغلال.
استهوت قصص "الديكاميرون" المخرج الحانق على اليمين المتطرف وسحرته طريقة جيوفاني بوكاتشيو في سرد هروب سبع نساء وثلاثة شبان من الموت الى الريف بعد أنْ تفشى الطاعون في المدن وتناثرت الجثث في الأزقة والطرقات، وفي طريقهم الطويل يقصون الحكايات لتزجية الوقت وتخفيف مشاق السفر، اختار منها عشر قصص من مجموع مئة، لتكون جزءاً من معالجة بازوليني البصريَّة، التي أضفت على الفيلم خفة وطرافة، من خلال مبنى سردي تقليدي، لكنه محبوكٌ بإيقاعٍ متسارع، فضلاً عن تنوع وتعدد الشخصيات التي مثلها هواة بلا خبرة، فثمة الفلاح والكاهن والتاجر والسارق والمحتال وبنات الهوى وسيدات المجتمع، وهؤلاء أنفسهم أبطال فيلميه اللاحقين "حكايات كونتربري"، و"ألف ليلة وليلة"، فثمة تأثر وتأثير بين النصوص الثلاثة وإنْ ابتعدت مشاربها، فالدكاميرون إيطالية، وحكايات كونتربري إنكليزيَّة، والليالي مشرقية، هذا التأثر بدا واضحاً في النصين الأولين ليس على صعيد المضمون فحسب، إنما في تقنية السرد فكما معروف إنَّ الليالي اعتمدت على التداخل السردي؛ فبالإضافة الى الحكاية الرئيسة هنالك أخرى تتضمنها، وهي ذات التقنية التي وظفها بازوليني في ثلاثيته.
رسالتان بثهما بازوليني في "ثلاثية الحياة" الضاجة بالمرح، أولاهما إبراز تحلل البرجوازية وزيفها وتحالفها مع الكنيسة، التي لا تقل عنها فساداً من خلال تعريتها وإسقاط ورقة التوت عن مساوئها، وثانيهما رسالة مضمرة تسقط كل ما ذكرناه على واقع الحياة السياسية الإيطالية، فهم اليمين الإيطالي رسالة بازوليني جيداً، خصوصاً بعد إخراجه فيلم "120 يوماً في سدوم" (1975) المقتبس عن رواية الماركيز دي صاد، فقد أثار فيلمه الأخير ضجة ولغطاً كبيرين، إذ لم يتورع متطرفون يمينيون من تهديده بالتصفية، وفعلاً لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، حتى وجدوا جثته على شاطئ مدينة أوستيا قرب العاصمة روما، إذ اغتيل في ليلة 1/ 2 تشرين الثاني، لتنتهي سيرة رجل فعل، لم يكتف بإخراج الافلام، إنما كان رساماً وروائياً وشاعراً ثورياً.