أين الطاهر

الصفحة الاخيرة 2020/06/13
...


حسن العاني 
 
هو طالب من عمرنا، ومن مرحلتنا الدراسية في الجامعة المستنصرية قسم اللغة العربية ولكنه بأقل الاوصاف التي يستحقها عبقري زمانه، لم يترك كتاباً في الادب والفلسفة والفكر والثقافة العامة الا وقرأه وحفظ الكثير منه عن ظهر قلب، وكنا نعجب من قدراته الهائلة فلا تكاد تذكر أمامه اسم شاعر او فيلسوف او مفكر من سقوط روما حتى قيام الجمهورية العراقية الا وتحدث عنه وعن مؤلفاته وكتبه وخصوصياته!
كان من حقه التباهي وكان من واجبنا الانبهار في حضرة طالب يمتلك قدرة متفردة على الاسترسال في الكلام وترتيب الافكار وسعة المعلومات وصياغة الجمل بأسلوب مذهل واذكر كيف نقلت له ذات يوم اعجابي برواية (الدون الهادئ) وقبل ان افرغ من ملاحظاتي تسلم مقود الكلام وأخبرني ان اجمل ما ورد في الرواية (ضمن نصها الاصلي) عبارة جاءت على لسان البطل القومي يقول فيها (العام كله اباطيل وانا الحقيقة الوحيدة) وقد وصف الناقد الروسي كوزموف هذه العبارة بأنها اعظم ما قيل في الادب السوفيتي ثم حدثني عن اعظم روايات المؤلف الموسومة (القمر والدب القطبي) ولكنها مع الاسف لم تترجم الى العربية!!
ويتربع على عرش الذاكرة من تلك الايام استاذ النقد الفقيد الراحل الدكتور علي جواد الطاهر تغمده الله بواسع رحمته كنا في المرحلة الثالثة من العام الدراسي 1968/ 1969 وها هو يدخل قاعتنا لاول مرة ويقدم نفسه بتواضع ويحاول التعرف علينا بطريقة مبتكرة حيث يذكر كل واحد اسمه ثم يتحدث عن اهم قراءاته والكتب التي تأثر بها فلما وصل الدور الى زميلنا عبقري زمانه عرّف نفسه، وراح يتحدث بطلاقة عن الادب السوفيتي، وتوقف عند ميخائيل شولوخوف وروايته التي لم تترجم الى العربية (القمر والدب القطبي)، وعرج بعدها الى الدون الهادئ، والعبارة التي وردت على لسان البطل وكيف وصفها الناقد العملاق كوزوموف بأنها اعظم ما قيل في الادب العالمي!!
كان الطاهر مصغياً اليه، وابتسامة ناعمة تطوف على وجهه، فلما انتهى، شكره وقال له (انا معجب بقدرتك الهائلة على التعبير عن افكارك، واعجابي اكبر بخيالك الخصب، لان شولوخوف ليست لديه رواية غير مطبوعة بعنوان، القمر والدب القطبي، ولا يوجد ناقد اسمه كوزوموف، ولم ترد على لسان البطل مثل تلك العبارة، وأنت كما هو واضح لم تقرأ الدون الهادئ، ولم تقرأ اي شيء بالمرة)، ثم قدم لنا شرحاً موجزاً عن حياة الروائي والجوانب الفنية المشرقة في الدون الهادئ وموقعها من الرواية العالمية وانتهى الزمن المقرر للمحاضرة ولم ينته الدكتور من محاضرته ووعدنا بمزيدٍ من التفاصيل في وقت آخر من غير ان يفوته توجيه النصيحة لنا ولزميلنا على وجه الخصوص بلغة ابوية رقيقة، ان نقرأ الدون الهادئ فهي عمل يستحق القراءة!
كانت لحظة تاريخية فصلت بين زمنين غادر فيها عبقري زمانه القاعة وقد تساقط ريشه الملون وذبل عرفه الاحمر وفقد صوته الجميل، ولم يعد يتحدث الى غير نفسه، ومنذ تلك اللحظة التاريخية الفاصلة، وحتى هذه اللحظة التي تكاثر فيها عباقرة زمانهم حتى امتلأت بهم البلاد، ولا رادع يردعهم، ونحن نصرخ بحزن: أين الطاهر؟!