جواد علي كسّار
سعيد من يقدّم كتابه مثل المفكر السوري هاشم صالح، أسجّل ذلك عن تجربة قمتُ بها شخصياً، وانتهت بمراجعة ما قد يصل إلى عشرين كتاباً، قام هاشم صالح بترجمتها والتقديم لها.
كنتُ دائماً أعتقد ولا أزال بأنَّ المفكر الجزائري الراحل محمد آركون، كان سيبقى مفكراً هامشياً لا تفقه كتاباته وأفكاره سوى نخبة ضئيلة، لولا هاشم صالح والعمل المعرّفي الضخم الذي نهض به، في ترجمة أفكار آركون وبيان مقاصده.
الحال نفسها تنطبق على كتاب غوستاف لوبون ذائع الصيت: «سيكولوجية الجماهير». فمع أنَّ أفكار لوبون في هذا الكتاب يسيرة سهلة المأخذ، لا يمكن أنْ تُقارن بحال مع الهندسة المعرفية المعقدة والغامضة لآركون، بأفكارها المتداخلة ومصطلحاتها المكثفة الشائكة، إلا أنَّ القيمة المعرفية لعمل صالح في هذا الكتاب، تجلّت في المقدّمة الممتازة التي وضعها، وهي تعادل برأيي قيمة الكتاب إنْ لم تزد عليه، وقد صرتُ في الغالب أكتفي بهذه المقدّمة الوافية الكافية، عن العودة إلى الكتاب نفسه.
ينبّه هاشم صالح في هذه المقدّمة النفيسة، الى أنَّ غوستاف لوبون كان يفكر فعلاً، بإحداث قطيعةٍ مع تراث ميكافللي السياسي، وهو يذهب إلى أنَّ معظم القواعد والقوانين التي تحكم البشر وقيادتهم، مما استخلصه ميكافللي، لم تعد صالحة منذ زمن طويل، وغوستاف أراد بكتاباته عن الجماهير وسيكولوجيتها، وعن علم النفس الاجتماعي، أنْ يضع بديلاً لتلك القواعد والأعراف والقوانين، وأنْ يكون من ثمّ «ميكافللي» عصره، والقرون التالية!
لقد أراد الكثير من المختصّين بدراسة طبائع الشعوب وبالجماعات والمجتمعات، أنْ يوحوا لنا بوجود فروقٍ أساسيَّة حاسمة في مواقف الجماهير بين الشرق والغرب، وأنَّ الهمجية واللاعقلانية والميل الشديد إلى التخريب، هي من خصائص الشعوب الشرقية وحدها خاصة في الأزمات، بينما جاءت الأزمة الاجتماعية الحاضرة في أميركا، تعضدها أزمات مماثلة في بلاد الغرب خاصة في بريطانيا وفرنسا، لتؤكد أنَّ الشعوب كافة تتصرّف في أوقات الأزمة، بطريقة متشابهة، وأنها تصدر من مزاجٍ واحد، وتكوين نفسي متقارب، وكتاب لوبون هو دليلٌ قوي من أدلة هذه الحالة، كما يلخص لنا ذلك هاشم صالح في مقدّمته.
من القواعد التي يذكرها صالح عن لوبون مباشرة، أن الجماهير هي الجماهير، وأن هذه الجماهير كما كانت تحركها الأيديولوجيات الدينية سابقاً، فقد حلّت الآيديولوجيات السياسية مكانها في العبث بهذه الجماهير. ومن القواعد أن للجماهير روحاً، مكوّنة من الانفعالات البدائية، ومكرّسة بواسطة القواعد الإيمانية والرمزية، ومن ثمّ فهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي، دائماً بحسب غوستاف لوبون.
من القواعد الأُخر التي يذكرها أنَّ التحضّر والمدنية، لا يلغيان وحدهما فاعلية الجماهير، ففي ألمانيا الأمس تحرّكت الجماهير باسم الفاشية والنازية، والتقدّم الأميركي والأوروبي لم يمنعاها اليوم من التواجد في الشارع وإنهاك النظام، ليخلص إلى وهم الفكرة الفلسفية التي كانت سائدة بين مفكري العالم، من أنَّ الناس تتحرّك بشكل عقلائي وتفكر بمصالحها على نحوٍ منطقي، عندما تنخرط في العمل السياسي والحياة الحزبية والاقتصادية المتقدّمة، وسقوط هذا الوهم وأمثاله من أوهام حياتنا، هو ما تؤكده حوادث الناس في أميركا كما في العالم كله!