بخت كولومبس

الصفحة الاخيرة 2020/06/22
...

عبدالهادي مهودر
 

تختصر مناهجنا الدراسيَّة تعريف الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبس بأنه مكتشف قارة أميركا، بينما يواصل الأميركيون إسقاط تماثيله وقطع رؤوسها وإلقاءها في البحر، وتحطيم جميع تماثيل رموز العنصريَّة في الولايات الأميركيَّة الغاضبة على مقتل المواطن الأسود جورج فلويد، أي إنَّ السيد كولومبس عنصري واستعماري واسمه وتمثاله يستفزان السكان المحليين، ما يعني أنَّ مناهجنا الموقرة أخفت النصف الآخر من تاريخه الذي دفع المتظاهرين اليوم إلى البحث عن تماثيله "ولاية ولاية وفلكة فلكة" ليحطموها ويسحلوها في شوارع فرجينيا وغيرها.
وإلى ما قبل أزمة جورج فلويد لم يكن اسم كولومبس يتردد في نشرات الأخبار ولم نكن نهتم بماضيه الدموي مع الهنود الحمر، لكنَّ مشهد لف تمثاله بعلم محترق ورميه في البحر أحالنا الى (بلاوي) تاريخنا المزيف، فكم من أمثال كريستوفر كولومبس في هذا العالم مجدتهم المناهج وخلدتهم التماثيل ولمّع المؤرخون صورهم وقدموهم لنا كمحررين وثوار وأصبح شبابنا يضعون صورهم على صدورهم وزجاج سياراتهم ويتخذونهم قدوةً من دون علم بكونهم طغاة وسفاحين بنوا أمجادهم على جثثِ ضحاياهم، وفي المقابل كمْ طمسَ التاريخ أسماءً تستحق التخليد بدوافع سياسيَّة وعنصريَّة وقوميَّة وطائفيَّة، تأكيداً لمقولة "التاريخ يكتبه المنتصرون"، وكمْ تمثالاً لشخصيات عربيَّة وإسلاميَّة لا تستحق تم وضعها في ميادين العواصم والمدن العربيَّة إذا تمعنا في ما قدمته للشعوب وما جرته عليها من نكباتٍ وويلات وفقر وجوع، وفي تاريخنا الكثير من الصدمات لأسماء رُفعت أو وُضعت وطُمس ذكرها بدوافع وانتقائيَّة وتحفظات غير منصفة.
كولومبوس الذي وصل الأراضي الأميركيَّة في (12‏ تشرين الأول من العام 1492 ميلاديَّة) كنا "لا نسمع عنه إلا الخير" وفجأة أصبح يشار له كأحد رموز العنصريَّة والمرتكب لجرائم ضد الإنسانيَّة وأنه دخل أميركا على جثث أهلها ونال كراهيَّة السكان الأصليين وتضخمت ثروته واقتيد إلى المحكمة الملكيَّة من قبل الأسبان ممولي حملته الاستكشافيَّة وارتبط منجزه الاستكشافي الكبير بالذهب والجشع والتمييز العنصري، ومن المفارقة أنْ يرتبط اسم هذا المستكشف المغامر بولادة عالَمين جديدين، مرة باكتشافه لمساحاتٍ واسعة من الأراضي والجزر، ومرة بما نعيشه اليوم من أحداث تنبئ بولادة (عالم ما بعد جائحة كورونا) وما يمكن أنْ نسميه بثورة السود التي تجاوزت حدود بلاد العم سام ويلسون، وأججتها حماقة الشرطي الأميركي الذي خنق فلويد حتى الموت وكشف ما خفي من حياة كولومبس.
وعلى الرغم من أنَّ هذا الرحالة ليس عربياً ولا كردياً ولا سنياً ولا شيعياً، فلا يمكن فهم الأسباب والدوافع التي تجعل كاتب المناهج ينظر بعين واحدة ويجمّل الوجه الأسود لكولومبس.
كما هو ديدن المؤرخين الذين لعبوا بالتاريخ "لعب الخضيري بشط"، لكنه مواطن إيطالي تم تعريفنا بالجزء المضيء من سيرة حياته والتستر على جرائمه بقتل ربع مليون إنسان وسرقة أموالهم وسبى نساءهم، فضلاً عن أننا منحناه لقب مكتشف أميركا التي اكتشفها قبله أقوامٌ آخرون، لكنْ يبدو أنَّ الرجل (مبخوت ومسنود وظهره قوي)، كما أنَّ صدمتنا بكولومبس تؤكد أنَّ نبش التاريخ سيفجّر صدمات عنيفة لسنا بحاجة لها، وكل ما مطلوب هو الأمانة والإنصاف في ذكر الحقائق التاريخيَّة عن أي شخصيَّة وذكر ما لها وما عليها، فما الضير لو قلنا إنَّ كولومبس "مكتشف عظيم لكنه متهم بارتكاب جرائم عنصريَّة" وأبوك الله يرحمه!