مئة عام على الثورة

الصفحة الاخيرة 2020/06/30
...

 جواد علي كسّار
 
أعتقد أنَّ مرور مئة عام على ثورة العشرين، مدّة كافية لإثارة الأسئلة على نحوٍ صريح ومباشر، بخاصة بعد أنْ استنفدت الواقعة نصيبها الكامل من التوثيق التاريخي، ولم تعد بحاجة للغة الشعار أو التبجيل.
الحقيقة ليست ثورة العشرين وحدها بل هي الثورات جميعاً، تخضع لمنطق منسجم أشبه ما يكون بقانون يتوحّد الثورات، من أبعاده: ماذا بعد الثورة؟ أو ما هو الأثر الذي تركته الثورة في إعادة بناء المجال السياسي، لا سيّما على مستوى الدولة والأمة، ومن ثمّ وبالتبع لهما على مستوى الاقتصاد والتنمية والحريات والتعليم؟
بالعودة إلى تاريخ الثورات في العالم، نجد هذا الترابط الوثيق بينها وبين إعادة بناء أو ترتيب المجال السياسي، حصل ذلك مع الثورة الإنكليزية عام 1688م، والأميركيّة التي انطلقت عام 1775م وكان استقلال أميركا من نتائجها، والثورة الفرنسية التي بدأت فعلاً عام 1789م، والثورة البلشفية في روسيا عام 1917م، والثورة الجزائرية التي انطلقت عام 1954م، والثورة الإيرانية التي انتصرت عام 1979م، فبعد كلّ واحدة من هذه الثورات، شهدنا تغيّراً شاملاً أو شبه شامل في تكوين الأمة وبناء الدولة، فهل ترافقت ثورة العشرين في العراق بمشروع كهذا؟
قد يُبادر البعض مستعجلاً الجواب، بأنَّ دولة 1921م العراقية هي النتيجة السياسية لثورة العشرين، وأن مساعيها في تكوين الأمة وبناء الوطنية العراقية هو الثمرة المباشرة لها. لكن يؤسفني أنَّ التاريخ بل وقائع الثورة نفسها، تقول غير ذلك، فثورة العشرين انطلقت كفعل جهاديّ مقاوم ضدّ الإنكليز، والأغرب من ذلك أنها كانت تحمل في أحشائها تفكيراً مناهضاً للدولة، من خلال اتجاه عددٍ كبيرٍ من قياداتها الدينية المؤثرة، إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية ودستور عام 1925م، وتجريم المشاركة في وظائف الدولة عبر الفتاوى المباشرة، أو من خلال تكوين مزاج عام بهذا الاتجاه، جاء مؤثّراً في سلوك الأغلبية.
أما عن الوطنية المرتكزة على مفهوم الأمة العراقية، فينبغي ألا نخشى القول ونحن نراجع ونقيّم من مسافة مئة سنة، بأنَّ مفهوم الأمة العراقية كان أبعد ما يكون عن وعي الثورة وتفكير قياداتها يومذاك، حيث العقل مشبّع بمفهوم الأمة الإسلامية، وإذا لاح شيء مغاير في الأفق فقد كان المفهوم القومي للأمة هو ما يلوح من بعيد، ويتسلّل بخشية وحذر، وهو ينثر مفهوم الأمة العربية والتركية والفارسية؛ أقصد مفهوم الأمة على أساس قومي وليس وطنيّاً.
هكذا نجد أنَّ ثورة العشرين بقيت برغم رياديتها، ثورة جهاد ومقاومة وتضحية وفداء، من دون مشروع في الدولة والأمة، وهذا مقدار وعيها وقتئذ ولا نستطيع أنْ نحمّلها ما لم تفكر به، ومن ثمّ فإنَّ مشروع ولادة دولة 1921م، ما كان هو الثمرة السياسية للثورة، بقدر ما جاء تجاوباً مع مجموعة من المتغيّرات الدولية والإقليمية، ممكن أنْ تكون ثورة العشرين في عداد مقدّماته، لكنها ليست العلة الكاملة أو التامة فيه.
زاد في المشكلة القيادة الملكية المستوردة للدولة العراقية الجديدة، هذه الدولة التي إنْ استطاعت أنْ تبذر شيئاً من معالم الوطنيَّة العراقيَّة، لكن هذه البذور لم تحقّق نجاحاً كافياً، لاعتمادها مفهوم دولة المكوّنات بدلاً من مرتكز الأمة العراقية، وقد زاد من إخفاقها بذور متوارية من الطائفية والإقصاء تقارنت مع تأسيسها.
هنا بالضبط تكمن عيوب التأسيس في الدولة العراقية الحديثة، التي لم تنجح في معالجتها انقلابات الضباط والتحوّل إلى نسق الحكم الجمهوري، بل تفاقمت الأزمة أكثر بالعسكرة والدكتاتورية، حتى حلّت لحظة التغيير عام 2003م، لتتيح فرصة لا تزال قائمة وإنْ تضاءلت، لتصحيح المجال السياسي على أساس بناء الدولة الوطنية وتكوين الأمة العراقية، وهذا بالضبط هو درس ثورة العشرين.