الواقعيَّة والتداوليَّة السياسيَّة

آراء 2020/07/01
...

علي حسن الفوّاز
 
ليس صعباً الحديث عن واقعية السياسة، ولا عن تداوليتها في الحياة العامة، وفي صناعة الخطاب، وفي إدارة الأزمات، وفي جعل هذه الواقعية مجالا للكشف عن خفايا الأحداث والمشكلات، وعلى نحو يجعل من آليات تداولها مقبولة، خاضعة لسياقات الممارسة، وللإجراءات التي تُخرجها من تجريدها الفلسفي الى ضرورتها في الحراك الاجتماعي والاقتصادي والتنموي. مايجري في الواقع ليس بعيدا عن شروط الحاجة الى السياسة، 
والى طبيعة علاقتها بحساب المصالح، وفي إدارتها، إذ يكشف "التسييس" او تغليب السياسة على الإجراءات الأخرى عن ممارسات، وفعاليات، تدفع الجميع باتجاه القبول بمعطيات ما تفترضه السياسة من مسؤوليات، وما تتركه من أثرٍ ومن ضغط، ومن وعي بأهمية التفاعل والتواصل بعيدا عن نظرية "العقل الأداتي" التي أسهمت الى حدٍ كبير في صناعة تاريخ طويل من المركزيات الحاكمة.. مفهوم السياسة هو أكثر المفاهيم ميوعة وخفّة في التداول الثقافي، لكنه أيضا أصلدها في الواقع، لأنه الوحيد الذي يؤمن بفكرة المصلحة على حساب القيمة، والعرض على حساب الجوهر، وهي قضايا وثنائيات ذات طبيعة برغماتية وإشكالية دائمة، وأنّ مايجمع نقائضها هو فكرة السياسة فقط، بوصف السياسة هي بنية، لها علائقها ومكوناتها، ونظامها، ولها أيضا مؤسساتها التي تتعالق مع مؤسسات الاجتماع والاقتصاد والأمن والثقافة.
الحاجة الى النظر بواقعية الى السياسة في العراق بات أمرا ضروريا ولازما، لأنّ تغييب هذه الواقعية قد يدفع باتجاه انتاج مزيدٍ من المشكلات، ومنها مايخصّ العمل المؤسساتي، في مفاصله، وفي آلياته، وفي السياقات التي تدخل في مجالات التنظيم والتخطيط والتمكين، والتي تحتاج بالضرورة الى مواقف وإجراءات، مثلما هي حاجتها الى الشجاعة، والى الحماية والقوة، لاسيما في ظلِ ظروف معقدة وصعبة كالتي نعيشها اليوم، ومن هنا فإن التعاطي الواقعي مع الورقة الإصلاحية لبرنامج رئيس الوزراء، ومع منهاج حكومته هو مايعني التواصل والتفاعل مع مفهوم الواقعية السياسية، وبالإتجاه الذي يمكنه أن يُعزز مسار مواجهة المشكلات أولا، وإمكانية البحث عن حلول قابلة للتنفيذ ثانيا، وايجاد فضاءات سياسية تدعم الحوار الوطني، والتصدي للأخطار الأمنية والصحية ثالثا، فضلا عن ايجاد آفاق تُيسّر معالجة الأزمة المالية، وللسيطرة على الفساد والترهل وتبديد الثروة رابعا، والبحث عن مصادر لتعظيم موارد الدولة، وتجاوز عقدة الاقتصاد الريعي خامساً.
 
السياسة والأزمات
ماهو تداولي في مفهوم السياسة يقتضي سلسلة من الاجراءات التي تدعم واقعية العمل السياسي، وتدفع نحو ضبط ايقاع حركة القوى السياسية في المشهد الوطني، وعلى أسس الشراكة في المسؤوليات وفي مواجهة التحديات، وعلى وفق انضاج عوامل التحوّل الديمقراطي والإثراء التنموي، والتخفيف من عبء الأزمات التي ظلت قرينة بالواقع السياسي العراقي.
إن علاقة السياسة بالأزمات ليست بعيدة عن الواقع، ولا عن طبيعة الصراع، ولا عن التحديات الاقليمية والدولية، والتي تشكّل عامل ضغط كبير على الواقع العراقي، لا سيما في مجال حماية الهوية العراقية، وقطع الطريق على التدخلات الخارجية، وفي صيانة البنية الاقتصادية المضطربة، والتي تعاني من مشكلات بنيوية عميقة، على مستوى تعويق عملية الاكتفاء الذاتي الغذائي، وعلى مستوى السيطرة على عشوائية الاستيراد وضخامته، وكذلك على مستوى تغوّل ظاهرة الفساد والتي مسّت للأسف كل القطاعات الاقتصادية والتجارية والمالية والإدارية.
هذه المستويات هي الوجوه الشائهة للأزمات، وللعُقد التي تُعاني منها إدارة السياسة في العراق، والتي أضحت مصدر تعويق خطير أمام الدخول في "عصر الحداثة" وفي الحفاظ على مشروعية المسار الديمقراطي، وحماية مؤسسة الدولة الدستورية، لأن هذه المؤسسة هي التي تملك الأهلية والقدرة الحقيقية في الحفاظ على واقعية "الأمة العراقية" وحماية تنوعها وتعددها من التفتت، ومن الانزلاق الى الصراع الأهلي، والذي كان واحدا من أكثر أهداف عصابات داعش الإرهابية حضورا، إذ عملت هذه العصابات ومن يقف خلفها دعما وتمويلا وإسنادا ايديولوجيا وسياسيا وعسكريا على تغويل الأزمات في الواقع العراقي، وعلى وضع السياسة أمام تقاطعات من الصعب السيطرة عليها، وعلى تطييف المكونات العراقية، خدمة لأجندتها الإرهابية والتكفيرية.