جواد علي كسّار
اغتيال العقول بتصفية أصحابها وقتلهم غدراً وغيلة، هو أحد مظاهر محنة العقل المبدع، حصل ذلك في بلدنا مع محمد باقر الصدر ومحمد هادي السبيتي وعزيز السيد جاسم ومحمد الصدر وغيرهم.
ما زلتُ أذكر وأنا أتابع عن كثب إصرار جعفر نميري في السودان، على إعدام محمود محمد طه عام 1985م بعد أن حكم عليه بالردّة، ولم يشفع له قلمه أو عمره الذي كان يومها قد تخطّى الخامسة والسبعين، وكان من أقدار الله المدهشة، ان نظام النميري أُسقط بعد ثلاثة أشهر من الواقعة فقط.
من مظاهر محنة العقل ومدارات القتل العبثية في مصر، تلك الاغتيالات وأحكام الإعدام التي طالت حسن البنا وعبد القادر عودة وسيد قطب ويوسف السباعي ولويس عوض وفرج فودة، وصاحب الرؤى الفكرية الستراتيجية جمال حمدان وغيرهم كثير، وقد نجا نجيب محفوظ بعد أن أُصيب كما نعلم.
أما في لبنان فقد فُجعت الحركة الفكرية بسقوط عقول متميّزة، كما حصل مع حسين مروّة صاحب موسوعة «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» والمنظّر حسن عبد الله حمدان المشهور باسمه الحركي مهدي عامل عام 1987م، والمفتي حسن خالد عام 1989م، وجورج حاوي. وفي دمشق سقط العالم السوري محمد سعيد البوطي صريعاً بمسجده عام 2013م، كما فقدت إيران نخبة من خيرة عقول علمائها باغتيال مرتضى مطهري ومحمد مفتح ومحمد حسيني بهشتي وهكذا.
تتأكد أكثر محنة العقل المبدع في عالم الصحافة والإعلام، وتكتسب أرقام الضحايا طابعاً مضمّخاً بفواجع الدم والاغتيال والقتل غيلة، ففي بلد صغير مثل لبنان، خذ إليك أسماء كامل مروة وسليم اللوزي ورياض طه وجبران تويني وسمير قصير، أضف إليهم الفلسطيني غسان كنفاني وناجي العلي، الذي ضربته رصاصة الغدر من دون أن يشفع له منفاه اللندني.
ومن الأردن نالت رصاصات الجهل والحقد والعمى ناهض حفتر، الذي أعدّه بمواصفاته العقلية والشخصية قريب الشبه بالراحل هشام الهاشمي، دون أن ننسى أيضاً فاجعة قتل وتقطيع الصحفي السعودي جمال خاشقجي. أما من سقط من صحفيي بلدنا، فهم بحاجة إلى متابعة قائمة بذاتها.
يُخطئ من يظنّ أن اغتيال العقول خاصيّة عراقية أو عربية أو إسلامية أو عالم ثالثية؛ هي خصلة متأصلة في التأريخ الإنساني وحاضر البشرية، وهي خاصيّة إنسانية منبسطة في بلدان العالم كله، ومراجعة سريعة لأرقام الضحايا وهوياتهم تثبت ذلك.
كما أن محنة العقل المبدع لا تقتصر على القتل والتصفية، فالاغتيال بالتجهيل والتسقيط والتهميش وتسييد الجهلاء ونصبهم مرجعيات لوعي الناس، ليس بأقلّ من الاغتيال بالرصاص، ووضع الأميين في مواقع المعرفة والمسؤولية الثقافية، وعلى رأس مؤسّسات العلم وأكاديمياته ومراكز التفكير، ليس أقلّ بلاءً من سقوط العقول ضحايا مضرّجة بدمائها.
على سبيل المثال، هل كانت مطاردة الكفاءات المعرفية في العراق ونفيها عن بلدها، واسقاط الجنسية عن الجواهري والبياتي، ومحاصرة أحمد الوائلي وهادي العلوي وفالح عبد الجبار ومحسن مهدي وغيرهم عشرات، أقلّ ضرراً من تغييبهم بالقتل؟ وهل الإهمال الذي طال الذوات المعرفية في الداخل مثل محمد تقي الحكيم وعلي الوردي ومحمد حسن آل ياسين وحسام الدين الآلوسي، أقلّ بتبعاته على مجتمع المعرفة من تصفية من صُفيّ بالقتل؟
أعتقد أن الإهمال والتضييق والإرعاب في الداخل، والنفي والمطاردة في الخارج، كلها مظاهر لمحنة العقل المبدع؛ هذه المحنة التي سوف لن تنتهي في بلدنا مع فاجعة هشام الهاشمي، وستبقى مفتوحة في بلدان العالم كافة، وإن اختلفت مظاهرها وتفاوتت أساليب التعبير عنها!