كلمة وفاء!

الصفحة الاخيرة 2020/07/19
...

 جواد علي كسّار
 
حصل اللقاء معه بعد السقوط مباشرة، تحديداً بتأريخ 25 أيلول 2003م عندما زارني في قناة العالم، وقد حمل لي مؤلفه الأول: «الديانة الزرادشتية وأثرها في الدولة الساسانية» مذيلاً بكلمات إهداء جميلة، مع توقيعه بالتأريخ أعلاه، وهو ما جعلني أقطع بحصول اللقاء الأول بيننا في أيلول 2003م، بعد أن عدتُ إلى الكتاب.
بين فرحة اللقاء الأول والخبر الحزين يوم الأحد الماضي، تقع قصة العلاقة مع الباحث المؤرخ د. جاسب مجيد الموسوي، هذه العلاقة التي مرّت بعدّة أطوار، وكانت لها محطات معرفية وإنسانية عديدة، قبل أن تصدمني صورته قبل أسبوع واحد فقط، وقد حصد حياته الوباء القاتل كورونا، بعد أن تواطأ مع قلبه المصاب!
قرّرتُ من فوري أن أكتب عنه، فعثرتُ بعد تفتيش على كتابه عن الديانة الزرادشتية، وراجعتُ بعض بحوثه التأريخية في مجلة كلية الآداب جامعة بغداد: «دراسات في التأريخ والآثار»، واستحضرتُ مجموعة مهمّة من المحاورات المشتركة التي جمعت بيننا على مدار لقاءات كثيرة. مازلتُ أذكر الخلاف الذي نشب بيننا في اللقاء الأول، وشابه شيء من الحدّة، ونحن نختلف على مفهوم الأمة العراقية، وعلاقة هذه الأمة بالتكوين التأريخي.
فللأمة دلالتان؛ الأولى انها مجتمع ذو سمات مشتركة مثل الجنس (الأمة العربية) والدين (الأمة الإسلامية) واللغة (الأمة الفارسية) والتقاليد والأعراف الموحّدة (الأمة التركية) وهكذا. كما لها دلالة أخرى في العلوم السياسية الحديثة، من واقع أنها تجمّع واعٍ من الأفراد لتكوين مجتمع اجتماعي – سياسي موحّد تحت حكومة واحدة. الاستعمال الأول المتداول في الحيّز الإنساني والحضاري، يعكس الهويّة مُنتزعة ببُعدٍ أو بحيثية محدّدة من تحيثات الجماعة، مثل اللغة العربية فنكون أمام الأمة العربية. في حين يعكس الاستعمال الثاني المتداول في العلوم السياسية، الهوية كتوجّه اجتماعي سياسي للجماعة، فعندئذ يصح أن نتحدّث عن الأمة العراقية، والأمة المصرية، والأمة الجزائرية، رغم انتماء الجميع في المفهوم الأول، إلى الأمة العربية.
كان السؤال الذي استقطب نقاشاً حاداً مع د. جاسب الموسوي (رحمه الله) ينصبّ على مفهوم الأمة العراقية الحاضرة، وفي ما إذا كانت امتداداً أثنياً ولغوياً ودينياً لحضارات العراق القديمة، أم هي وجود تكوّن مع نزوح عرب اليمن والحجاز إلى العراق، وتبلور مع الفتح الإسلامي؟
بعد ذلك دامت العلاقة وتطوّرت معرفياً وإنسانياً، فقد لمستُ بالصديق الراحل، صفاء النفس والطيبة، والنُبل الطافح في العلاقات الشخصية، والصراحة المقرونة بالشجاعة في إبداء الرأي، مع عصامية متميّزة دفعته للمثابرة في طلب المعرفة والانكباب على العلم، خاصة بعد أن صار أستاذاً في الجامعة، إذ أصبح وكأنه في سباق مع الزمن، يسعى جاهداً لسدّ الثغرات والفراغات المعرفية، لاسيّما تلك الناشئة عن أجواء الحصار إبّان عقد التسعينيات.
من بعد مفهوم الأمة العراقية انشغلنا بتأسيسيات لرؤية، حول الشخصية العراقية على مستوى الفرد والمجتمع، كان طموحنا فيها أن تنطلق بموازاة الانبعاث المرجوّ للبلد بعد التغيير، يتجاوز من خلالها الإنسان العراقي تلك القيود والمحن التي صاحبته خلال المئة سنة الأخيرة، مما تحدّث عنه الوردي وسواه.
لقد تأخرتُ بعض الشيء عن الكتابة عن جاسب الموسوي، ليس عزوفاً أو إهمالاً، إذ من همومنا الأساسية ومحاور اشتغالنا العمل على ترويج الطاقات المعرفية العراقية. وأعترف أن بعض المشاركات في المجموعات الخاصة على شبكة التواصل، قد استفزتني وهي تعرّض بأصحاب الأقلام وتنتقد انتقائيتهم في تضخيم تغطية بعض الشخصيات دون الأخرى، وهذه إن حصلت فهي تعبّر عن لا أخلاقية سافرة.
ما أخّرني بصراحة أننا نعمل كأشخاص وبطاقات فردية، لذلك احتجتُ إلى وقت لمراجعة سجّل الرجل وكتاباته وتأريخ العلاقة معه، ولم تسعفني المواقع الإلكترونية بشيء ذي بال، ما يستدعي العمل بسجّل الكتّاب والباحثين لكي يسعفنا في هذه المواقع، وهو مشروع ملح سنعاود الحديث عنه في وقت مستأنف إن شاء الله.