على الرغم من صلافة الموت، الذي وصفه الامام علي بن ابي طالب(ع) بالذي “ لا ينجو منه هاربه ولا يفته طالبه”، الا انه يتخذ في العراق منحى تراجيدياً، فضلاً عن أسى الفقدان، خصوصاً حين يكون المتوفى صانعاً للثقافة، فكل شعوب الأرض تحتفي بمبدعيها وتدعم إنجازاتهم وتوثق ارثهم، من خلال مؤسسات معتبرة، تحفظ مكانتهم في حياتهم وبعد مماتهم، الا في بلادنا فلا مؤسسة تفعل ذلك ولا أسرهم تعي أهمية التوثيق، وهذا ما يعطي لموت صناع ثقافتنا بعداً تراجيدياً مأساوياً، فكم من مخطوطة اتلفت، او تلاقفتها عصابات التهريب، لتذهب بعيداً بلا رجعة، وكم من قامات ينحني لعلمها الداني والقاصي صارت نسياً منسياً، وقد يبدو مشهداً مألوفاً – وان كان سريالياً- أن تبحث عن صورة لواحد من افضل مصوري الأفلام السينمائية واكثرهم موهبة، لوضعها في صفحة نعيه، فلا تجدها، هذه الصورة الداكنة بددها الفنان الرائد ضياء البياتي، الذي خطفه الموت قبل أيام، عن عمر ناهز الـ83 عاماً، البياتي الذي ولد في الحلة عام 1937وتخرج من معهد الفنون الجميلة في العام 1961، وهو ضمن خريجي قسم المسرح الدورة الأولى في اكاديمية الفنون الجميلة، كان فناناً شاملاً؛ اذ مثل واخرج وانتج في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة.
وعمل منتجاً منفذاً ومديراً فنياً لعشرات الأفلام والاعمال التلفزيونية منها على سبيل المثال لا الحصر: “الظامئون”، و” المسألة الكبرى”، و”بيوت في ذلك الزقاق”، و” الرأس”، و”القناص “، و”التجربة”، و” النهر “، وغيرها من الأفلام، كما قدم اعمالاً درامية عديدة، أبرزها: “ أعماق الرغبة” ، و”البيوت اسرار”، و” من يطرق باب الليل”، وعرف عن صاحب “ جسر الاحرار “ إخراجه للعديد من الأفلام القصيرة والوثائقية ، ابرزها: فيلم “ أكاديميتنا” (1963) وهو باكورة اعماله واطروحة تخرجه من الاكاديمية، و”مدينة الماء” (1970) الذي اخرجه بالأسود والأبيض، و فيلم “ يوميات حرس قومي في بغداد”(1963) فضلاً ظهوره ممثلاً مميزاً في العديد من الأفلام الروائية على شاكلة : “الرأس”، و”النهر” لفيصل الياسري، و” بيوت في ذلك الزقاق” لقاسم حول، و” التجربة “ من اخراج فؤاد التهامي، و” الأيام الطويلة” لتوفيق صالح.
عرف عن الراحل اخلاصه في العمل ودقته في تنفيذه، وعلى الرغم من تبوئه مناصب متقدمة في السينما والمسرح، الا انه لم يتقيد بروتين الوظيفة ولم ينصرف عن العمل الميداني، وبذلك استحق بجدارة لقب “ شيخ المنتجين العراقيين”، ولم تمنعه شيخوخته من التفاعل مع المشهد الثقافي السينمائي، مهتماً بتجارب الشباب وصناعة افلامهم، فلم يبخل عليهم بالنصح والتوجيه، وأصدر موسوعة السينما العراقية بثلاثة أجزاء (1909 – 2018) و مكتبته التي تضم وثائق نادرة متاحة لكل دارس ومهتم، وعلى الرغم من شيخوخته، الا انه كان حاضراً في المشهد السينمائي العراقي في بغداد والمحافظات؛ خبيراً ومستشاراً وعضو لجان تحكيم، وقد أخبرني المؤرشف السينمائي محمد أبو يوسف انه عثر مؤخراً على فيلم من اخراج الراحل بعنوان “ عيون” عن فكرة المخرج محمد شكري، والذي سيعرض قريباً.