السينما ليست حكاية، أو قصة، أو حدثاً، إنما هي مجموعة تركيبية معقدة من العناصر اللغوية السينمائية، التي تسهم جميعها في البنائية الفيلمية، المنتمية إلى الأساليب والاتجاهات السينمائية. فمن دون تصادم هذه العناصر، أو تآلفها مع بعضها البعض، لا يمكن أن تنتج لنا عملية إبداعية تتمتع بعناصر فكرية وجمالية خالصة.
وفيلم “الرمق الأخير” سيناريو وإخراج حيدر خضر يسبح بمجمله في فضاء التداولية، فهو يمنح نفسه منذ البداية، ليأخذنا إلى ما هو متداول في حكايته، عبر سرد يمكن أن أصفه بالسرد المتعرج، الذي لم يكن قادراً على لملمة أحداثه، والانطلاق بها إلى خلق فضاءات سينمائية، تقربنا كمشاهدين من الواقع الذي اقتطعه لنا الكاتب، ليخلق رسالته الفنية والفكرية ويقودنا إلى كل ما هو مفيد ومثمر في هذا المقطع الواقعي.
ان كل البناء الذي اعتمده الفيلم في دقائقه العشر، هي تلك الصدمة والدهشة، التي جاءت من خلال تلك المألوفية في الحدث، المبني على تفصيل جزئي (وضع الهوية الشخصية للبطل في جيب ملابسه العسكرية، التي استخدمها صديقه الذي استشهد فيما بعد) وهذا هو الذي حرف النسق الدرامي من التداولية، إلى فاعلية الأنماط السينمائية، التي تتلاءم مع هذا المحتوى الذي يقدمه الفيلم، وبهذا نجد مشهد استشهاد البطل في بيته، تزامناً مع استشهاد صديقه الذي يحمل هويته، قد أكد قدرة الكاتب على التفكير السليم في بناء الحدث، وبالتالي بناء فكري متقدم للرسالة، التي يحملها الفيلم بشكل كامل .
اذاً، فالفهم الذي يتم فيه تأمل اللقطة، باعتبارها مرادفاً للصورة في رمزية الفهم للخصائص اللغوية، يعد مهمة خاصة لكل مخرج، وهذا ما يجعل الاختلاف واضحاً في طريقة الحصول على الأفكار، وخاصة الأفكار العميقة التي يجب أن يهتم بها المخرج، فالأفكار مثل الأسماك، إذا كنت ترغب في صيد سمكة صغيرة، يمكنك الاكتفاء بالبقاء في المياه الضحلة(الضفاف). ولكن إذا كنت تريد اصطياد سمكة كبيرة، وجب عليك الذهاب عميقاً، ففي الأعماق توجد الأفكار الأكثر قوة والأكثر نقاوة.
يضعنا الفيلم بحبكة متقنة، أمام واقع مثير (موت الابن في بيته مقابل شهادة صديقه الذي يحمل هوية الابن)، هذا التشابك منح الفيلم (في مشهد هو الأقصر في الفيلم) دفقاً إنسانياً نبيلاً، ارتقى به إلى حالة إنسانية فيها من القيم الرائعة، التي أصبحت دافعاً قوياً في تغيير مسارات النسق الدرامي والفكري، وهنا نجد أن تطور السينما في علاقتها بالواقع وعلاقتها بلغتها، عبر منطلقين مهمين، أولهما تظل اللقطة عبارة عن :
1 ــ وحدة بنائية ذات استقلالية خاصة لكنها متحدة مع البناء العام للفيلم.
2 ــ الأسلوب الذي يعتمد اللقطة في الفهم السردي ويريد أن يبعدها عن البنية الحكائية .
الشكل وحرفية الاشتغال
على الرغم من نفوري من النظرية النقدية الافتراضية، الا أنني أجد نفسي ملزماً بالإشارة إلى استخدام الفلاش بك الذي جاء مربكاً، فكان من الأفضل الذهاب إلى السرد الميقاتي، لأسباب كثيرة، اغلبها تصب في خدمة السرد الصوري للفيلم، فطريقة الارتداد لم تظهر بتداخل زمني يرتبط مع المتن الحكائي، وهذا جاء سلباً على دقة المعلومات البنائية، إضافة إلى الإرباك الحاصل في الاشتغال مع الزمن السينمائي (مشاهد المقهى، مشاهد حمل الجريح، تكرار الأغنية ما بين مشاهد مختلفة الأزمنة).
ان تجربة المخرج حيدر في فيلمه الأول هذا، تجربة تستحق الاهتمام، لأنها تحمل بوادر وعلامات جلية لشاب واعد، يمكنه أن يحقق ويرسم لنفسه طريقاً، في عالم يحتاج إلى تراكم الخبرة والخروج إلى عالم، يقتنص منه كل ما هو خارج التداول والمألوف في الفن والحياة على حد سواء.