بداية العقد الستيني من القرن الماضي ( 2 /1 /1965)، هو عام تعييني معلماً في مدرسة قروية نائية على طريق الكوت. كل شيء هنا لا علاقة له بالنظريات التي درسناها في مرحلة الاعداد لهذه المهنة، ليس ابتداءً بتلامذتها الذين يحضرون الى الدوام بالدشاديش ويشربون الماء من الساقية المجاورة لبناية المدرسة، وليس انتهاءً بالبناية نفسها ذات الجدران الطينية والسقوف المعمولة من جذوع النخيل، ومع ذلك كنا سعداء للغاية، وعوامل سعادتنا لا تحصى ولا تعد، فأهل القرية بدون استثناء، ينظرون الينا نظرة تقديس ،ويتعاملون معنا باجلال واحترام كبيرين، ورواتبنا يومها (32 ديناراً) وهو مبلغ يكفي لشراء ذمة السلطان، وكنا جميعاً من اعمار شبابية متقاربة، ومن سكنة بغداد ما عدا (المدير) فهو اقدم منا خدمة واكبر عمراً ومن أبناء القرية نفسها وقد بنى داره على مبعدة امتار من المدرسة واستقر في المنطقة..
كان فلاحو القرية – وهذه طبيعة القرى العراقية – كرماء معنا، حيث لا يكاد يمضي يوم من دون أن تصل ( صوغة) باسم احد المعلمين تحديداً او المدير او الملاك التعليمي ، لبن ، تمر ، خبز حار ، صحون بيض بالدهن، زبدة ، سلال فاكهة..الخ، وقد جرت العادة أن نتناول ما يصلنا من اطعمة وفواكه بصورة جماعية، سواء كانت باسم واحد منا ام باسم الملاك ، ولم يحصل في حدود ذاكرتي أن استأثر أي معلم بصوغته الخاصة ابداً، او اخذ منها شيئاً الى بيته وما كان يفيض منها نوزعه على التلامذة او نعطيه للفراش ، ولكننا لاحظنا بان المدير هو الوحيد بيننا الذي يشاركنا الطعام دائماً، فاذا جاء شيء باسمه لا يشاركنا فيه بل يرسله مباشرة الى بيته!
الحقيقة اغاضنا هذا السلوك الاستغلالي كثيراً، ومنعنا الحرج والحياء من معاتبته، ولكن الاقدار الجميلة هيأت لنا ذات يوم فرصة (الانتقام) منه، إذ غادر الرجل القرية في ذلك اليوم متوجهاً الى مديرية التربية منذ بداية الدوام الصباحي لتسلم رواتبنا الشهرية، ولن يعود في العادة الا مع نهاية الدوام او بعده بقليل، ونحن بالطبع لن نغادر المدرسة قبل عودته وتسلم
الراتب!
في ذلك النهار المبارك قدم أحد القرويين وبيده سمكة كبيرة الى المدير (صوغة خاصة)، فكانت فرصتنا الذهبية، اجتمعنا وتحاورنا واتفقنا.. ثم ارسلنا السمكة مع الفراش الى ام فيصل (زوجة المدير) وهي سيدة فاضلة ، وطلبنا منه ابلاغها ان زوجها (أي المدير) يقول [هذا اليوم سيأتي المفتش ومدير التربية في زيارة تفقدية الى المدرسة .. وأريد وجبة اكل تفتح الوجه] ومع نهاية الدوام كانت مائدة الطعام قد جهزت ووصلت الى الإدارة (سمكة وثلاث دجاجات جميعها مشوية بالتنور مع كمية كبيرة من المقبلات والخبز الحار)، وصل المدير وفوجئ بالمائدة الملكية التي بعث بها شيخ القرية كما أخبرناه فأكل بشهية وفيما كنا نشرب الشاي حضر صاحب الصوغة واعتذر للمدير لانه لم يستطع اصطياد سمكة اكبر، اصفر وجه المدير واحمر بعد اكتشافه لعبتنا، ولكنه جارانا في الضحك حياء، إلا انه لم يحضر الى الدوام في اليوم الثاني بسبب تعرضه الى ضربة شمس.. على حد
زعمه!!