«جدار» آلن باركر وحروبنا العبثيَّة

الصفحة الاخيرة 2020/09/02
...

علي حمود الحسن
 
لا يذكر اسم المخرج آلن باركر، الذي رحل عن عالمنا، مؤخراً، الا مقترناً بفيلمه الثوري الشهير “ الجدار” (1982)، وهو واحد من خمسة أفلام موسيقية، أخرجها باركر وتحولت الى تحف بصرية منها، إضافة الى “ الجدار” فيلم “ ايفيتا”(1996)، الذي يتحدث عن الطالع السعيد والحزين أيضاً لايفا بيرون، التي حكمت الارجنتين وتحولت الى ملهمة لشعبها، و” باغزي مالون”(1976) وتدور أحداثه- بشكل مرح- حول حرب عصابات، يقودها أطفال بمسدسات وبنادق تطلق كريم الكيك، بدلا من الرصاص، هذا الفيلم كرس مخرج “ حياة ديفيد كول”، كواحد من أساطين الفن السابع تفردا في مواضيعه وطريقة معالجته، فيلم اخر نجح تجاريا ولم يتقبله الجمهور بحماس أخرجه باركر مبكرا، بعنوان” الشهرة (1980) رصد فيه تطلعات وآمال شباب موهوبين في معهد للفنون ومكابداتهم في طريق الشهرة الطويل، فضلاً عن علاقتهم بأساتذتهم وبعضهم البعض، والخامس “ الالتزامات”(1991) عن مجموعة موسيقيين يسعون لتكوين فرقة غنائية، وهي ثيمة باركر الاثيرة.
 معظم هذه الأفلام، نجحت تجاريا وحققت جوائز أوسكار وبافتا وغولدن غلوب- لكن هذا لم يمنع باركر من القول: “انه صنايعي أفلام وليس مخرجا”، السينما بمفهوميته تستوعب كل الفنون، شرط جذب الجمهور، وهذا لا يعني اسفافا او تسطيحا، إنما رؤية وموقف من عالم رأسمالي، استلب إرادة الانسان وحوله الى كائن مغترب، وهذا بالضبط محور فيلم “الجدار”(1982) وثيمته الأساسية، التي استمدها من فكرة “ ألبومين” لفرقة البينك فلويد الانكليزية الأكثر انشغالا باثارة السؤال الازلي، الذي رافق الانسان منذ بدايات وعيه الأول : ما معنى وجودنا، وما جدواه ان كانت نهايته الموت ؟ التقط باركر الذي يعرف جيدا ان السينما هي الوسيط الأكثر حظا في طرح الأسئلة الإشكالية، اذ تتوافر فيها مساحة أوسع، وأكثر إمضاءً للتعبير عن كل هذا، فتشارك باركر مع قائد الفرقة ومؤلف كلمات أغانيها روجير واتز، في كتابة سيناريو “الجدار” الذي يستلهم الحياة الملتبسة والكئيبة، لأحد أعضاء الفرقة، موظفا فيه الرسوم المتحركة، وأغاني فرقة البينك فلويد، واستخدام اضاءة مبتكرة وقطع سريع، فضلا عن “ الفلاش باك”، لنرى مشاهد سريالية وأخرى فوق السريالية، اذ نتابع هلوسات بينك الكئيب والمسطول، وهو يسترجع طفولته المأساوية، بدءاً من مقتل ابيه في الحرب، ومرورا بنظام التعليم الفاشي، الذي يصادر حرية الفرد ويصيره كائنا خانعا ممسوخا، وانتهاءً بالسلطة القامعة، فدائما ثمة جدار يفصل الكائن عما يريد، فيلتجئ الى تحطيم كل شيء، لكن باركر وفريق عمله تركوا الباب مواربا، أمام اخضرار الغد الإنساني، من خلال أطفال يحملون أنقاض الجدار المهدم وينزعون فتائل المولوتوف . 
لم يكن آلن باركر المولود في العام 1944 لأسرة مكافحة - ظل وفيا لهموم طبقته لآخر أيامه- سينمائيا، انما فنان شامل فهو موسيقي ومصمم ورسام، فضلا عن موهبته الفائقة بإنتاج وإخراج الإعلانات، تلك المهنة التي قاده الشغف بها الى صناعة الأفلام، اذ اخرج خمسة عشر فيلما طوال مسيرته الفنية أبرزها: “قلب الملاك” (1987)، وفيلمه الفائز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان كان “بيردي”(1984)، و” حياة ديفيد غيل” (2003)، الذي دعا فيه الى الغاء عقوبة الإعدام، ورائعته التي ادانت العنصرية ضد السود وعرتها “ المسيسبي تحترق”(1988).
 وجد الكثير من المثقفين العراقيين، الذين التحقوا صاغرين، بجبهات قتال حرب لا أول لها ولا اخر، في “الجدار” تعبيرا عما يجيش في نفوسهم من رفض لعبثية الحرب وعسكرة المجتمع وتدجينه قطيعيا، فتهافتوا على مشاهدته من خلال كاسيتات الفيديو، فضلا عن قاعات بعض المنتديات الخاصة، وكان بيتنا محجا للكثير من الأصدقاء المهتمين، وغالبا ما تنتهي جلسة المشاهدة، باسقاط الرموز والرسائل التي تضمنها الفيلم على واقعنا، فما زلت أذكر كيف كان يبذل الصديقان العزيزان، القاص والكاتب المسرحي عبد السادة جبار، والمهندس كاظم خنجر جهودا اسطورية في تهيئة طقس المشاهدة، بدءا من العثور على الشريط، ومرورا بترتيب قاعة العرض، التي هي غرفة مكتبتي، وانتهاءً بمشاركتهم مع الضيوف في حوارات ومناقشات لا يسكتها سوى، انتهاء اجازاتنا الدورية لتبتلعنا خنادق القتال، بعد ان نتفق على لقاء آخر إن عدنا سالمين.