التوازن

الصفحة الاخيرة 2020/09/05
...

 جواد علي كسّار
أطلق الراحل عزيز السيد جاسم مرّة، مصطلح «النمو بدون جذور» في توصيف حالة قد تبرز في الأوساط الثقافية نفسها، وتجد لها مصاديقها في جميع الشعوب والبلدان.
قابله في تشخيص الظاهرة ذاتها عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي، في إطلاق مصطلح «المسطّحات المائية» على من يبدو للآخرين بحراً، لكنه من دون عمق.
من اختلالات هذه الحالة اضطراب النمو داخل المجتمع الواحد، بين الثقافة العالمية والثقافة الشعبية؛ والأكاديمية والتواصلية؛ والنظرية والعملية وهكذا، ومن تبعاتها السلبية أيضاً غياب التوازن بين ثقافة الذات وثقافة الآخر، إذ تراه يعرف ثقافة الآخرين ويجهل ثقافة بلده ورموزه.
منذ أن تعرّفتُ على المفكر حسن حنفي أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، وأنا أعرف أنه يكتب بالفرنسية والإنكليزية ويؤلف بهما، لكن ذلك لم يصرفه عن الثقافة العربية الإسلامية وأمهّات مصادرها، يشهد على ذلك مشروعه الجاد «التراث والتجديد» بجبهاته الثلاث، الأكثر من ذلك لم يرض لنفسه كما للآخرين، أن يكون ضحية ظاهرة «النمو بلا جذور» واختلالاتها المروّعة، وهو يقول نصاً: «انظر إلى كتاب أيّ شاب يظنّ أنه لن يكون مثقفاً إلا إذا ملأ صفحاته بمصطلحات معرّبة وألفاظ أجنبية وهو لا يزال في العشرين من عمره، ويستعرض أسماء من شكسبير لغاية جان بول سارتر، ويتصوّر أن هذه الثقافة».
دخلتُ في حوار مع أحدهم حول قضية عقائدية أراد أن يستدلّ عليها من التأريخ، فسألته مسترسلاً إن كان يستطيع أن يفعل ذلك من خلال تأريخ الحوليات بموسوعاته الثلاث، وكنتُ أقصد بها تأريخ اليعقوبي، ثمّ الطبري ومن بعده المسعودي، فلاحظتُ أنه لا يميّز بين الموسوعات الحولية وما سواها من المصادر التأريخية، وزميل آخر أدار جلسة حوارية عن عاشوراء والإمام سيّد الشهداء بحضور عدد غير قليل من الباحثين، وإذا به يشدّد النكير على المؤرخين وهو يذكر بضرس قاطع، أن المؤرخين وعلى رأسهم الطبري، لم يولوا الواقعة الكربلائية إلا أربعة سطور!انتحيتُ به جانباً وذكرتُ له أن الطبري وحده خصّص أكثر من مئة صفحة للواقعة في تواريخ سنة 60 و61 هجرية، إذا أضفنا إليها تداعيات ما بعد كربلاء في الكوفة وحدها، فستكون الحصيلة مجلداً ضخماً.
العبرة هي التوازن لكي لا نكون ضحية النمو بلا جذور، بيد أن المشكلة أننا لا نعيش سوى عمر واحد، وليس فينا من يعيش عمرين، أحدهما يتعلّم به ويهب الآخر للبناء السليم!