ندوب في الأعماق

آراء 2020/10/14
...

 نازك بدير*

ماسحات ضوئية ربّما هو ما نحتاجه لنمحو تراكم سنوات من أوجاع، عمرها أطول من رحلة جلجامش لغابة أرز الرب، بين أن تترك أثرًا وتمحوه ثمّة 
فرق. 
وفي كلا الفعلين عمليّة تراكم، بصمات بناء الأثر عمليّة تصاعديّة. يترافق مع محونا للأثر، في الأعمّ، أن نحصل على خدوش. قلّما نزيل أثرًا من دون أن نترك خدشًا ما يشي بطللٍ مضى. 
وإن حدث واختفت النّدوب، فذلك في كثير من الأحوال إشارة الى أنّ الأثر كان في طور التشكّل، ولم يتّخذ هوّيته الكاملة، ولم يتمكّن بعد من تعميق نفسه مَعْلمًا يُضاف إلى قائمة ما سبقه.
وكلمة» أثر» تحمل، في رسْم أحرفها الثّلاثة، مراحل بناء الأثر، وحياته، وموته: الهمزة على الألف الاستقامة والاستطالة، الثاء على السّطر بعد استقراره واتّخاذه شكلًا وحيّزًا، وصولًا إلى المرحلة الأخيرة التي تمثلها الرّاء في حركة كتابتها المتّجهة نزولًا نحو الأعماق . ثمّة تعارض بين موقع الهمزة على الألف، واتّجاهها نحو الأعلى، وبين انحدار الرّاء وهبوطها نحو الأرض.
ولعلّها تمثّل مشهديّة الإنسان، والمراحل الأساسيّة التي يمرّ بها خلال عبوره في هذا العالم: وكأنّ الألف تمثّل رحلة الفرد وما يشغله خلال حياته ليترك أثرًا ما، إلى أن تنتهي هذه الرّحلة، ويبدأ مشوار من نوع آخر، لكن هذه المرة باتّجاه معاكس، نحو الأرض، يتّحد مع التراب، من حيث أتى، فتأتي حركة الرّاء لترسم مشهد النّهاية.
ولقد ورد عن أرسطو( مَنْ لم يترك أثرًا هو والعدم سواء). لكن، لا ننسى أنّ ثمّة الكثير ممّن يكون عبورهم خفيفًا لا يترك أيّ» أثر» فينشدون مع مولانا جلال الدين الرّومي قوله: (سلاماً على الطير، وهو يمضي دون أن يترك 
أثرًا). 
 ثمّة آثار من الصّعب أن تمحى على الرّغم من مرور الزّمن، تتعالق مع الرّوح، لا سيّما الآثار النّفسيّة النّاجمة عن الحروب، وما نشهده اليوم من صراعات في المنطقة لا يزال يحمل في طيّاته الكثير من آثار الماضي، سواء في إقليم ناغورنو كاراباخ أو في غيره من الأقاليم المتنازع عليها، ستبقى، بعد انتهاء الضّربات العسكريّة، ندوبا لن تلتئم، وعلامات تُخبِر عن جراحات انصرمَت، وسيكون من العسير طمسها.
هل بالإمكان حذف صور الجثث من ذاكرةٍ تمرّغت بضحايا الحرب؟
 
* أكاديميّة لبنانيّة