القضية الحسينيَّة في الدراسات الانثروبولوجيَّة

آراء 2020/10/24
...

  د. يحيى حسين زامل
مع اتساع الاشتغالات الأنثروبولوجية الميدانية، برزت أنساغ فرعية مهمة أخرى، تهتم بقضايا إنسانية ومعرفية وثقافية كانت مهملة في الزمن السابق، ولعل من حسنات هذا العلم – الأنثروبولوجيا– أنه أخذ يهتم بما أهمله الآخرون من مظاهر وأنساق ونظم وبناءات ورموز دينية واجتماعية وثقافية. ولعلَّ "القضية الحسينية" من أهم التجريبات في هذا الاهتمام المعاصر، في ضوء التطور العلمي والاكاديمي والمعرفي اليوم، وانتقال "الأنثروبولوجيا الكلاسيكية" التي ركزت على "المكان"،
 إلى مجالات ومواضيع "الانثروبولوجيا الراديكالية" أو "النقدية" التي تركز اليوم على "الموضوع"، فضلا عن قضية مهمة في التجريب يجب الالتفات إليها جيداً، من أن "الأنثروبولوجيا النقدية"، أخذت تنحى منهجاً جديداً، في أعمال "التحليل والتغيير"، خلافاً للمنهجية السابقة في "التحليل والتفسير"، وهذه انتقالة علمية مهمة أطرت الأنثروبولوجيا بإطار جديد من المعرفة، فلم يعد الأنثروبولوجي يمر على الظواهر مرور الكرام، بل أصبح معنياً بها، يلاحظ ويشارك ويحلل ويفسر وينتقد ويغيّر، أي يسعى لتغيير الظواهر والعادات السلبية، ويرسخ الظواهر والعادات الايجابية، التي تعود بالنفع على المجتمع. 
 و"القضية الحسينية"، من القضايا الكبرى في المجتمع الاسلامي على العموم، وفي المجتمع الذي يدين بمذهب "أهل البيت"، على الخصوص، لأنها تشكل إنعطافة تاريخية في أحداث الأمة، فلم يشهد التاريخ الإسلامي قتل سبط الرسول محمد (ص)، وثلة من أهل بيته وأصحابه، وسبي نسائه من قبل، في معركة غير متساوية الأطراف في العدة والعدد، فضلا عن بشاعة الأسلوب وطريقة القتل، وسحق جسد الإمام الحسين(ع) تحت الجياد بعد القتل، والتمثيل به، ومن ثم حرق الخيام في مشهد دراماتيكي يذهل من يقرأ واقعة كربلاء بتفاصيلها المحزنة، لذلك تركت هذه المأساة انطباع حزين في الثقافة الاسلامية في مختلف البلدان، ورسخت في أدبها وفنونها العديد من الصور والدلالات الثقافية الرسمية والشعبية 
المؤثرة.
 
من التاريخ الى الثقافة
 ولعل من أبرز الاهتمامات الأكاديمية للدراسات الأنثروبولوجية في العراق وبعض البلدان المجاورة، الدراسات الانثروبولوجية التي تناولت "القضية الحسينية"، بتفاصيلها وطقوسها وشعائرها ذات النمط الديني والشعبي الفريد، ولما تشكله هذه القضية من أهمية وجدانية وروحية في ثقافة المجتمعات، فضلا عن جعل هذه القضية طريقاً ومنهجاً في الإصلاح، ومحاربة الظلم والاستبداد على مر التاريخ، فخروج هذه القضية من "التأريخ" إلى "الثقافة"، جعلتها غضة وطرية وتفاعلية، يمكن دراسة مظاهرها في كل وقت 
وحين.
 
المجتمع الكوفي
ولعلَّ من أولى الدراسات الانثروبولوجية، الدراسة المعنونة (الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين (ع))، وهي دراسة إسلامية تاريخية في علم الأناسة المعاصر لمجتمع الكوفة، للباحث الدكتور "نبيل الحسيني"، في العام 2009 م. واهتمت الدراسة بمجتمع الكوفة وثقافته والسلوكيات والأخلاق السائدة أبّان معركة كربلاء، والأسباب التي أدت لاستشهاد الإمام الحسين(ع) وأهل بيته واصحابه، وبيّن الباحث الأسباب التي دعت إلى معركة الطف، والدواعي والنتائج المترتبة على ذلك، وتساءل الباحث عن الأسباب التي دعت إلى ذلك، وهل السبب في شخصية الإنسان الكوفي، أم في المجتمع الذي نشأ 
فيه؟ .  وقارن الباحث بين مدرستين في هذه الدراسة، بين مدرسة الإمام الحسين (ع) الأخلاقية والإصلاحية، وبين المدرسة الأنثروبولوجية، ولا سيما "الاجتماعية الثقافية" التي تبحث عن الظواهر الاجتماعية والثقافية في المجتمع، وتحول الإنسان من صفة إلى أخرى، ومن صورة إلى أخرى بسبب الثقافة والتنشئة والتربية التي يتلقاها، وكانت دراسته لمجتمع ضمن حيثيات تلك المدرستين، وفي الأخير يصل الباحث إلى نتيجة: أن الثقافة التي نشأ عليها الإنسان في الكوفة لو نقلت إلى المدينة المنورة أو مكة لقتل الحسين (ع) بأشد مما قتل في كربلاء، وإن كان الإمام الحسين(ع) قد ألتف من حوله بعض الأنصار من الكوفة، فإنه في مكة لن يجد له نصيراً، ويستشهد الباحث: بواقعة الحرة في المدينة، وتهديم الكعبة وحرقها، ونصب رأس الإمام الحسين (ع) في الجامع الاموي، ووصوله إلى مصر وعسقلان، إلا خير دليل على انتشار هذه الثقافة في عموم البلاد 
الإسلاميَّة.
 
الاستعداد للطقس
 وكانت الدراسة "الثانية" للباحث الدكتور "ياس خضر العباسي" في العام 2011، في قسم الاجتماع في كلية الآداب، جامعة بغداد، والتي كانت بعنوان(الدليل والإشارة في ثقافة الأسرة العراقية، دراسة ميدانية في الأنثروبولوجيا الثقافية)، وتناول الباحث فيها الدلالات والاشارات الدينية والثقافية في الأسرة العراقية، من خلال الطقوس الحسينية، في أيام شهر محرم الحرام، وكيفية التهيؤ لها من خلال الاعداد المبكر لطقوس وشعائر عاشوراء، للإعلام والرايات والصور الخاصة بهذه المراسيم الدينية والشعبية، ومن ثم اجراء المجالس الحسينية الرجالية والنسائية (الملايات)، ومشاركة الصبية والصبيات لهذه المراسيم التي تدخل في صلب ثقافة أكثر العوائل العراقية، فضلا عن إعداد الطعام (الهريسة)، و(القيمة)، واصفاً حتى أنواع البخورات والعطورات في تلك المراسيم الحسينية الحزينة.
 
أيقونة الثورة
 والدراسة "الثالثة" كانت للباحث الدكتور "علاء حميد إدريس"، وهي بعنوان( الايقونة في النمط الثقافي الفرعي: دراســـة ميدانيــــة)، وهي دراسة ماجستير في جامعة بغداد، للعام
 2011 . 
ويدور موضوع الدراسة حول مفهوم الايقونة الشيعية (صور أئمة الشيعة)، ومعناها عند الجماعة الشيعية من وجهة نظر أنثروبولوجية، ورموزها ودلالاتها في الثقافة العراقية الشيعية، وتفاعل الفرد الشيعي مع ايقونات الائمة، وبذلك يصبح مفهوم ومعنى الايقونة صورة شخصية أو جماعية لأشخاص مقدسين عند أفراد الجماعة الشيعية يحملون طابع التبرك والإيمان، لذلك فهي تمثل إحدى سمات هويتهم الثقافية، والخصائص التي تميزها عن باقي الهويات الأخرى، وتتجسد أجلى صور الايقونة في الشعائر والمراسيم الحسينية، من خلال وظيفتها الدلالية والرمزية والطقسية المكثفة، واعتمد الباحث في تحليل نمط التفاعل ما بين الايقونة وأفراد الجماعة الشيعية، النموذج الانثروبولوجي الذي كوّنه "فيكتور تيرنر"، متناسبا مع المعاني التي تحملها الايقونة الشيعية عند متلقيها من أبناء مدينتي(الصدر والكاظمية).
والدراسة "الرابعة" كانت بعنوان: (Shi’ism..A Religion of Protest)، (المذهب الشيعي.. دين الاحتجاج)، للباحث الإيراني "حامد دبشي" وهي دراسة انثروبولوجية عن الشيعة وطقوسهم ورؤاهم الثقافية والمعرفية في محافظة (الأهواز) جنوب إيران في العام 2011، وتتكون الدراسة من أربعة فصول، وقدم الباحث في الفصل الأول منها تأريخ وأصل المذهب الشيعي، ومبادئِ مؤسساته المذهبية المبكرة في محافظة "الأهواز"، وفي الفصل الثاني: يصف الباحث بشكل تفصيلي تأريخ المذهب الشيعي من القرن السابع إلى لقائِه بالحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشرِ، وفي الفصل الثالث: ينتقل الباحث في قصته من الجانب المذهبي التاريخي إلى التوضيح الجمالي للإيمان، والانعتاق من اليأس، وفي الفصل الرابع والأخير: يصل الباحث للمذهب الشيعي في سياقه الحديث، يحلل المواقع المعاصرة للتحدي في إيران والعراق ولبنان، وفي جوهر هذه الدراسة يشخص الباحث بأن المذهب الشيعي، هو مذهب "الثورية والاحتجاج"، وأنه كان ينتفض بشكل مستمر على الحكام، من خلال تأثره بثورة الإمام الحسين(ع) وانتفاضته الخالدة، ويشير كذلك إلى أن بعض الطقوس في الشعائر الحسينية متأثرة ببعض الثقافات الأخرى من البلدان 
المجاورة.
 
المسير الى الحسين
 والدراسة "الخامسة" كانت بعنوان (المشّاية في مراسم الزيارة الأربعينية) دراسة ميدانية، وهي دراسة ماجستير للباحث "مجاهد ابو الهيل بدر الجابري" في جامعة بغداد في العام 2012 م، واهتمت هذه الدراسة بظاهرة "المشّاية" إلى كربلاء المقدسة، وهم يقومون بأداء مراسيم زيارة الإمام الحسين (ع) في العشرين من صفر من كل عام، والتي أخذت طابعاً دينياً واجتماعياً وسياسياً، ولاسيما منذ تغيير النظام العراقي بعد 2003، وانهيار مؤسساته الأمنية وسلطته القمعية، لتبرز ظاهرة أداء الزيارة في أربعينية الإمام، الحسين (ع) بشكل لافت للنظر، بحيث أخذت بالتطور واتساع نسبة المشاركة المليونية في هذه الظاهرة، ومن الطبيعي أن تتسع دائرة الاهتمام بدراسة هذه الظاهرة ومعرفة دوافعها والأسباب التي أدت إلى اتساعها بهذا الشكل الكبير، وهذا ما دفع الباحث لاختيارها موضوعاً لبحثه، ودراستها بشكل يوفر جانباً من الإحاطة بتلك الدوافع 
والأسباب.
 إنَّ الغرض الأساس من هذا الدراسة– كما يقول الباحث- هو تقديم دراسة اجتماعية حول هذه الظاهرة وقراءتها من الداخل، على وفق منهج تحليلي ميداني، لمعرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى تفاقمها واتساعها بعد سقوط النظام عام 2003، واستقصاء العلاقات الاجتماعية، وما ينجم عنها أثناء المشاركة وممارسة عملية السير لمسافات شاسعة، حيث تنتقل العادات والقيم الاجتماعية والثقافية بين المجتمعات الفرعية المشاركة، كما يمكن التعرف على التوظيف السياسي والديني للظاهرة من قبل المؤسسات والحركات والأحزاب، التي تدعم هذه الظاهرة لتشكل ظاهرة سلوك جمعي في العراق على مر العصور.
 وكانت الدراسة "السادسة" والأخيرة، بعنوان (رموز ودلالات المرقد الحسيني، دراسة أنثروبولوجية) في جامعة بغداد، في العام 2015، للباحث "محمد حنون"، والذي تناول فيه المرقد الحسيني في كربلاء، وما يحمل من رموز ودلالات، مثل (القبر، القباب، المآذن، الأبواب، الفناء، اللافتات وكل ما يتعلق بالضريح)، ودلالتها الرمزية والأخلاقية المتمثلة في الطقوس الحسينية المنبثقة من هذا الضريح، وطريقة إيمان الزائرين بهذه الطقوس وممارستها، فضلاً عن المعتقدات الناتجة عن هذه الممارسات التي جعلتها باقية ومستمرة أمام كل التحديات خلال السنين الطويلة، فهذه الطقوس لها دور كبير في التذكير بما حدث في واقعة الطف بشكل أو بآخر، وكان لما تم ذكره شعاع يمتد من المرقد الى كل ما يتعلق به من قريب أو بعيد يتمثل ذلك بالبركة وإشباع الحاجات والتغلب على الظلم والمصاعب والضيق وقد تمت المعالجة الأنثروبولوجية لهذه الدراسة بالاعتماد على النظرية التفسيرية الرمزية، التي عالجت الكثير من الموضوعات ذات الدلالات الرمزية والتأويلات التشخيصية. ولعلَّ هذه الدراسات وغيرها تكون مفتاحاً للعديد من الدراسات المستقبليَّة التي تهتم بالممارسات الدينيَّة والشعبيَّة المرتبطة بنمطٍ معينٍ من الثقافة، التي عانت ما عانت من ظلمٍ وتهميشٍ واستبعادٍ على صعيد التعايش والاندماج مع الثقافات الأخرى.