الأخلاق الوظيفية!

الصفحة الاخيرة 2020/12/21
...

جواد علي كسار
يبدو أن الواقع قد أرهقه، بعد تراكم عقود من المفارقات الدائمة بين الواقع المعيش والأطر النظرية، أتابعه منذ أكثر من ربع قرن في بحوثه وكتبه، وهو شديد التمسّك بالمرجعيات القيمية للأخلاق، لكنه بات الآن وهو يدرّس مادّة الأخلاق لطلبة الدكتوراه، بعيداً عن تلك المرجعيات، وأقرب ما يكون إلى ما يُطلق عليها بالأخلاق الوظيفية. ليس المهم الاسم، بل الموقع والرسالة، ففي أحد دروسه ضرب مثالاً بدا مقنعاً جداً، لدعوته الجديدة إلى الأخلاق النفعية ذات الطابع الوظيفي، فقد حدّث طلابه، بأن الممرضة لا تنهض عادة بمسؤوليتها في المستشفيات الرسمية، لكنها ما إن تضع قدمها في المستشفى الأهلي، حتى نراها أرق من النسيم، في مداراة المريض والعناية به، بسبب الأجور الوافية أو المرتفعة التي تتقاضاها، ثمّ ترتقي أكثر إذا طلبتها لرعاية مريض في البيت، فهي تتفنّن بأداء دورها، بأخلاق أرقى من أخلاقها في المستشفى الخاص، لأنها تعلم طبيعة الأجور العالية التي ستحصل عليها.
بازاء هذه الثلاثية الوجدانية التي لا تحتاج إلى دليل، والتي غالباً ما نُعايشها ليس في بلدنا وحده، بل في بلدان المنطقة، وربما في بلدان العالم كافة، ينتهي دكتورنا المحترم، إلى وجود ثلاث مراتب أخلاقية لإنسان واحد، ترتبط بالمجال الوظيفي، فبقدر ما يتعلق الأمر بمثال التمريض، يجد أن الممرضة غالباً ما تكون في المستشفيات الرسمية بمستوى متدنٍ من الأخلاق، وبمستوى راقٍ في المستشفيات الأهلية، وبمستوى أرقى في الرعاية الخاصة بالمنزل. عند هذه النقطة يسأل الأستاذ طلبته للدكتوراه: ما قيمة الأطر القيمية لنظريات الأخلاق، إذا كان المجال الوظيفي، بقيمة المنفعة التي يدرّها، قادراً على صناعة انسان يؤدّي دوره بأخلاق عالية، ويحقّق ما نريده منه؟ الأخلاق في النظرية النفعية الوظيفية، تتحوّل إلى سلعة تدور من حول المنفعة، ونحن نشتريها وندفع ثمنها، لكي تُقضى حاجاتنا بيسر وسهولة، فما الضير في ذلك؟. 
هذا المنحى الذي يعكسه هذا الأستاذ، لم ينشأ عن جهل بالأطر والنظريات ومذاهب الفلسفة الأخلاقية، بل يريد أن يضعها وراءه، اعتقاداً منه بعقمها أو عدم جدواها، هذا الاتجاه يريد أن يضع وراء ظهره مذهب سقراط وابيقور، ومذهب المنفعة عند جرمي بنتام وجون ستوار مل، ومذهب الضمير عند روسو، والعاطفة عند آدم سمث، ومذهب الواجب عند كانت، صعوداً إلى مذهب القوّة عند نيتشه، أضف إليها المدرسة الإسلامية بمذاهبها الأخلاقية المختلفة، ومذاهب الزهد عند الهندوسية والبوذية؛ وهو لا يفعل ذلك اعتباطاً أو بدافع التعالي على هذه الفلسفات، بل يتجه لذلك تحت ضغوطات الواقع ومتطلبات الحياة الملحة. فالإنسان في حياته يحتاج إلى الأخلاق على نحو ماسّ وضروري؛ يحتاج إلى الأخلاق عند الموظف والإعلامي والسياسي، وفي المهن والحرف والوظائف كافة؛ ومنطق هؤلاء: إذا لم تكن الفلسفات الأخلاقية والقيمية قادرة على إيجاد الأخلاق في الإنسان، فلماذا لا نلجأ لتوفيرها بالشراء، عبر المنفعة ومن خلال الوظيفة، حتى ولو أُطلق عليها مصطلح الأخلاق الوظيفية أو البازارية؟
في المحصلة، هي وجهة نظر قابلة للنقاش!.