عاشق الروح.. نسق جمالي مبتكر

الصفحة الاخيرة 2021/01/18
...

سامر المشعل 
الموسيقار محمد عبد الوهاب شخصية موسيقيَّة استثنائيَّة مرَّتْ في عالمنا العربي وتركت عطاءً غناسيقياً سيظل ينث جمالاً دون انقطاع.
سنسلط الضوء هنا على إحدى تجليات موهبته الفذة في أغنية «عاشق الروح» التي لحنها ضمن سياق أغاني فيلم «غزل البنات» للمخرج أنور وجدي.
في أغنية «عاشق الروح» يكشف عبد الوهاب عن سر عبقريته على مستويين، هما مستوى الموسيقى: فقد ابتكر عبد الوهاب تشكيلاً جديداً في استنطاق الآلات الموسيقيَّة على نحوٍ غير مسبوق في الموسيقى العربيَّة، فقد استخدم ثماني آلات موسيقيَّة في هذه الأغنية وهي آلة الماندولين، يبدأ مطلعها: (ليه ليه ليه ليه يا ليل ليلي طال.. ليه ليه ليه ليه يا عين دمعي سال.. يا عيوني حبايبي ليه هجروني.. ليه يناموا وانت تصحي ياعيوني.. ليه ليه).
كتب كلمات هذه الأغنية الجميلة الشاعر حسين السيد التوأم الإبداعي للموسيقار محمد عبد الوهاب.
لم تكن هذه الأغنية الوحيدة التي ابتكر بها عبد الوهاب هذا التعبير الموسيقي وركز على استنطاق آلة موسيقيَّة معينة، إنما سبق أنْ استخدم في أغنية «لست أدري» أربع آلات موسيقيَّة وهي آلة القانون، تعزف ضمن فرقة موسيقيَّة واحدة.
ومعروف أنَّ آلة القانون، أو الماندولين، أو العود، تكون آلة واحدة ترافق الفرقة الموسيقيَّة، إلا أنَّ عبد الوهاب خالف المتعارف عليه وأعطى نسقاً جمالياً مبتكراً لتكثيف المعنى التعبيري الذي تمنحه الآلة بقصديَّة جماليَّة.
المستوى الآخر يكمنُ في مضمون الأغنية، فهو يجسد قصة علاقة غير متكافئة اجتماعياً وعمرياً. بين نجيب الريحاني مدرس اللغة العربيَّة الفقير، الذي يقع في شباك تلميذته ليلى مراد، بنت الباشا، فيعشقها الريحاني بكل جوارحه وعلى إيقاع نبضه المتسارع، أخذ ينظر الى الحياة بنظرة مغايرة وبفعل إغواءاتها تدب في أغصان روحه المتيبسة، الحياة والأمل والحب.. بإيهام من تلك الفتاة الشيقة بأنها تبادله الحب.
فتأتي الصدمة من حبيبته، بأنها تُحِبُ شخصاً آخر، لمشهد ينفتح على تقديم الموسيقار محمد عبد الوهاب أغنية «عاشق الروح». في هذا المشهد يتطلب من نجيب الريحاني أنْ يبكي ويتفاعل مع الحالة بحزنٍ وإلمٍ دفين، فأراد المخرج أنْ يضع قطرات «جل سرين» في عيني نجيب الريحاني، وهذه المادة هي التي تستنزل دموع الممثلين أثناء التمثيل.
رفض نجيب الريحاني وضع قطرات «الجل سرين» في عينيه، وقال للمخرج «انت سمعني أغنية عبد الوهاب وأنا بعيط»، استغرب المخرج، ثم انقاد الى رغبته.يقول عبد الوهاب: «عندما سمع الريحاني الأغنية أخذ يبكي بكاءً حاراً وكأنه بالفعل متألمٌ من شيء أصاب وجدانه».
وبذلك حقق عبد الوهاب الإبداع على مستوى الجمال الموسيقي بشكلٍ أخاذ ومبتكر، وبذات الوقت جسد المعنى ومضمون النص بنحوٍ مؤثرٍ إنسانياً.علماً أنَّ فيلم «غزل البنات» الذي قدمت فيه الأغنية أنتج في العام 1949 لندرك أنَّ عبد الوهاب هو موسيقار الأجيال لعصره وللأجيال التي ستأتي من بعده.