مات البطل!

الصفحة الاخيرة 2021/01/22
...

حسن العاني 
أكثر من عشرين سنة امضيتها في مهنة التعليم، كانت الأحب الى روحي، خاصة تلك العلاقة اللذيذة مع ابنائي (التلامذة) بعبثهم وبراءتهم وطفولتهم، وكان من الطبيعي أن أتعرف على عشرات النماذج من الزملاء، مثلما تعرفت على العديد من الإدارات المدرسية، فمن مدير متواضع (ليّن) الى الحد الذي تنعكس ليونته سلباً على العملية التربوية، الى مدير حازم متشدد في حزمه، بحيث يبدو( يابساً ) مقرفاً لا يطاق، الى مدير حازم يضبط إيقاع المدرسة ونظامها، ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع زملائه المعلمين على أنهم من أقرب أصدقائه، ومع تلامذته بمنزلة الأبناء.. الى ..الى.
نوع آخر فريد من نوعه هو المدير ( نوري الحلي) الذي عملت معه للمدة مابين ( 1970 – 1975)، فالرجل لم يكن متشدداً او حنبلياً في تطبيق الأنظمة والقوانين، بل كان « كتلة» من الاستعلاء والزجسية، ومن الجبروت المسلط على رؤوس زملائه، و( بعبعاً ) مخيفاً للتلامذة، حوّل غرفته الى غرفة وزير لا يدخلها حتى المعلم او المعلمة، الا بإذن منه عن طريق ( الفراش)، مع ان الدخول تقتضيه ضرورات العمل في أغلب الأحيان.
هل كنا جبناء ام مسالمين بحيث اكتفينا بصدور عامرة بالغيظ والكتمان والصمت المطبق، فلم نحتج او نعترض او نوقفه عند حده باليد او اللسان، ربما خوفاً من الظهر القوي الذي يستند اليه، وما تهيأ له من نفوذ كبير وسلطة غاشمة لا قدرة لنا على مواجهتها، وكان عزاؤنا الوحيد 
هو اللجوء الى ( اضعف الإيمان) عبر سيل اللعنات والشتائم المبتكرة 
التي نُكيلها اليه في جلساتنا 
الخاصة.
الحق يوجب الإشارة الى أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لمعلم التربية الرياضية الشاب ( محمد شاكر ) – حديث عهد في الوظيفة – فقد كان ذلك الرجل يجمع بين الحركة وروح المرح والفوضى الجميلة، وبين اخلاق القرية وشجاعتها وكرمها، ويحمل في وجهه الصرامة والليونة معاً، هذا الشاب الجريء، كان على الدوام يشن حملات علنية ومباشرة على المدير، ولم يتورع عن وصفه وجهاً لوجه بالطاغية الظالم ( لم تكن مفردة الدكتاتور شائعة يومها).
نعم، زميلنا وحده من قال للمدير وأمامنا جميعاً [ انت أسوأ من الطاغية ولا يشرفني العمل معك ]، وقد غمرتنا تلك المواجهة بالسعادة لأنها تعبر عن مشاعرنا الحقيقية وأصواتنا المخنوقة، ولهذا كنا ننظر اليه بأعظم قدر من الاحترام، لكونه يمثل صورة البطل الذي نتمنى تقليده ويمنعنا الخوف.
ذات صباح حضرنا كالعادة الى الدوام، وفوجئنا بصدور امر اداري من مديرية التربية يقضي بتعيين( البطل) بدرجة معاون، وفي ضوء ذلك هيأ له المدير منضدة الى جواره، وبات الوصول اليه لايتم الا بأذن منه، والمرة الوحيدة، التي رأيناه فيها كانت في الاجتماع السنوي الذي يسبق امتحانات البكالوريا، والجملة الوحيدة التي قالها طوال الاجتماع [ أنا أتفق تماماً مع المدير في كل كلمة قالها ]، ولم نشعر لحظتها بالحزن على فقد امهاتنا كما انتابنا امام ذلك الموقف، لان الطاغية اصبح طاغيتين، وقبل ذلك لأن البطل مات!