تشظي الفضاء المكاني في السرد

ثقافة 2021/02/14
...

 كمال عبد الرحمن
 
بما أن الفضاء السردي يتشكل من جملة عناصر، لذلك يأتي التماسك البنيوي في النص من خلال العلائق النصية من (زمان) و(مكان) و(شخصية) و(حدث) و(رؤية)، فقد أصبح المكان مفتاحا من مفاتيح ستراتيجية النص بغرض تفكيكه واستنطاقه، والقبض على جماليات النص المختلفة.وقسم مول ورمير المكان أربعة انواع حسب السلطة (عندي/ عند الآخرين/ أماكن عامة/ المكان المتناهي). وقسم بروب المكان لثلاثة أنواع (المكان الأصل/ المكان الذي يحدث فيه الاختيار الترشيحي وهو عرضي ووقتي/ المكان الذي يقع فيه الانجاز والاختيار الرئيس) وقد سماه غريماس باللامكان.
وتجاوزنا عددا من تقسيمات المكان التي ذكرها (غالب هلسا وياسين النصير وشجاع العاني وغيرهم)، أما بسبب تشابهها مع الاقسام السابقة أو تكرارها أو لاتخدم دراستنا هذه، ومثلما يتشظى الزمن في النص إلى (استشراف) و(استرجاع) و(استباق) و (زمن السرد) وغير ذلك، كذلك يتشظى المكان إلى عدد من الجدليات المتضادة المتنافرة، منها (المكان المغلق والمكان المفتوح) و(المكان الآمن والمكان الخطر) و(المكان السيء والمكان الحسن)، وهكذا تتشعب الأمكنة من خلال جدليات التضاد، في السرد تبرز الحاجة الى الفضاء المكاني أكثر من حاجة الشعر له مثلا، فالرواية مثلا تقوم على حكاية، وكل حكاية فيها (زمن ومكان وشخصيات)، ففي رواية محمد حياوي (خان الشابندر)، تتشكل جدلية المكان بين قطبي (شارع المتنبي: المكان المضيء المستنير) وبيت (أم صبيح) في أفقر أحياء بغداد القديمة، حيث يبتلع الظلام كل شيء، مكان مضيء لبث الانسانية والنور يقابله مكان مظلم لبث الفساد والظلام، وبين هذين المكانين المتناقضين تقوم رواية حياوي الانسانية رغم حاسة التشيؤ التي ضربتها من كل جانب.
ونجد وارد بدر السلام يكتب عن (الهور) في الجنوب في كتاب المعدان الكتاب الاكثر شهرة للكاتب وهو كتاب تعمق في بيئة الاهوار ومزاياها الاجتماعية، والسحرية والطقوسية في عجائبيات فن السرد القصصي، ثم يكتب رواية (عذراء سنجار) في شمال العراق، وهي تتحدث عن الأيزيدية، تاريخها وناسها وممارستهم الدينية ومآسيهم لا سيما الأخيرة «داعش».
وفي رواية (دوامة الرحيل) الحائزة على جائزة (كتارا) تنطلق الروائية ناصرة السعدون من الجرح العراقي نفسه (مفخخات + انتحاريون + قتل على الهوية + نهب ولصوصية + عبوات ناسفة.. الخ)، تدور أحداث الرواية في ثلاثة فضاءات مكانية (العراق) و(الاردن) و(اميركا) والاحداث تدور بعد عام 2003.
أما رواية (الظلال الطويلة) لأمجد توفيق فهي تشتغل بين مكانين متناقضين هما (بغداد) و(باريس)، إذ تشتغل الشخصيات على تفعيل مسارات الاحداث بين العاصمتين، لقد اعتمد البناء السردي للرواية على مستويين رئيسين من السرد مثَّلَ الاول شخصية (انتصار) والثاني شخصية (بشار) فضلا عن مستويات ثانوية اخرى مساندة تظهر بين ثنايا النص الروائي بصيغة او اخرى مثل: افراد العصابة وايزابيل الفرنسية في باريس وابو صهيب السياسي والفاسد البخيل بعد 2003 وغيرهم.
 وفي رواية (طعنة برد) لبيات مرعي وهي سيرة ذاتية مشتركة عن حادثة واقعية عبارة عن رحلة من العراق الى ألمانيا وتشمل عدة دول على مراحل مختلفة منها تركيا وهولندا والدنمارك والسويد والنرويج وسويسرا وفرنسا وايطاليا ودول أخرى.
وتدور أحداثها عن الهجرة غير شرعية التي قام بها المؤلف بشكل فعلي حقيقي مع عدد من المهاجرين من جنسيات مختلفة في رحلة واحدة، تنتهي هذه الرحلة العجائبية المفزعة بالعودة الى الوطن في حيرة غريبة بين البقاء في الخارج أو العودة حين اكتشف البطل أن داخل الوطن وخارجه هما حالتان من الغربة لكل منها وجهها لكنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة عندما لا يحقق الوطن كل متطلبات الحياة لمواطنيه فهذه غربة لا تقل بشيء عن غربة الابتعاد عنه.
وفي رواية (السقشخي) لعلي لفتة سعيد ربما لا تحمل موضوعا واحدا أو تأويلا واحدا.. وربما هي لا تملك صناعة رأي بل صناعة وصف لحالات عاشها جيل كامل.. رواية تكشف عما صادفه الانسان من معاناة دالة على قسوة الحكم والتاريخ والواقع الحاضر المتأثر بكل ما جرى وظلامية المستقبل لدى الإنسان العراقي.. المحيط والعالم.. حتى أضحى هذا الإنسان المستل من كرة أرضية اسمها الجنوب العراقي والمدينة الجنوبية القديمة التي اسمها (سوق الشيوخ).. ربما هي مكانٌ واقعيٌ لكنه هنا افتراضي لتقريب الواقع.. وربما الراوي في الرواية والشخوص الاخرين هم افتراضيون لكنهم واقعيون بحكم كل الوقائع التي يصادفها الإنسان من محن السلطة والطغيان والاحتلال والحظ العاثر والقدر المحكوم بالظن والشك والخوف والهلع.. إذ يغادر البطل الى عمان هاربا ثم بيروت بعد ان يسجن ثم يتعرف على لبنانية مقيمة في اميركا ويذهب معها ليتزوجها ويعود بعد عام 2003.
لا شك أن تشظي المكان محكوم بتشظي الانسان، لا يمكن ان تتحرك الشخصية او الشخصيات العراقية إلا تحت ضغوط معروفة، لذلك ترى الهجرات القسرية او الطوعية تتشكل على هامش الأزمات والحروب والأخطار التي تحيق وتحيط بإنساننا العراقي الذي أصبح رمزا للحركة والهجرة نحو الاتجاهات كافة، وفي الغالب تفشل هذه المحاولات ولا سبيل الا في (الغربة في الداخل) كحل غير ودي أمرُّ من العلقم!.