طالب عبد العزيز
رفع المترجم العربي لرواية ستيفان تسيفاييج (ماري انطوانيت) إهداء الكتاب الى سيغموند فرويد، ولم أتنبه لذلك، إلا بعد قراءة كتاب الرسائل المتبادلة بينهما في الفترة الواقعة بين عامي (1908 - 1939) والصادر عن دار الهجّان 2020، بترجمة ناظم بن ابراهيم.
وهي رسائل مهمة تدلّنا على حجم الرابطة الفكرية والمعرفية بين الروائي تسيفاييج وعالم النفس فرويد، وترشدنا الى حجم الاجلال والتواضع، الذي يكنه أحدُهما الى الآخر، وتدل على عظمة وعبقرية كلٍّ منهما. ففي 1926 يكتب تسيفاييج الى فرويد: "لقد صرنا بفضلك نرى ونقول الكثير من الاشياء، التي لم تكن لتُرى أو تُقال دونك.
ولم يتضح هذا كله بعدُ لأنَّ شِعْرنا لم يقيّم من وجهة نظر تاريخية، ولا حسب العلاقة السببية... ولن ننكر أبدا فضل المؤسس الاول".
شخصياً، ما كنت لأعرف حاجة الروائي والشاعر والفنان لعلم النفس إلا بعد أنْ اطلعتُ على تعلق تسيفاييج بأفكار فرويد، ودأبه وسعيه للإحاطة بها، حتى وجدت أنه استعان بفرويد، وبأكثر من طبيب نفساني حين شرع يكتب روايته التاريخية (ماري انطوانيت)، إذ كان يتوجّب عليه حذف الكثير من الوقائع التاريخية، الخاصة بحياتها وحياة لويس السادس عشر، لما في بعضها من إخلال بجملة القيم الانسانية، والتي يجب اغفالها في العمل الروائي. ويكتب له أيضاً: "إن عصراً خالياً من الفكر مثل عصرنا يحتاج الى بوصلة معرفية".
شكوى تسيفاييج، قبل نحو من مئة سنة تحيلنا الى ما نحن عليه، في ثقافتنا العراقية، حتى لكأنها تصيح بنا: أين أعمالنا الادبية والفنية من المراجعة الفكرية والعلمية لمثل هؤلاء؟
وكم ستكون الاعمال هذه على درجة من الاهمية لو وجد الشاعر والكاتب والفنان من يفحص نتاجه ويحصّن معرفته وكشوفاته؟.
ويكتب فرويد متحدثا عن اشتغالاته خارج تخصصه في الطبِّ النفسيّ ما يُذهلنا فهو يقول: ".. فقد ضحّيتُ كثيراً من أجل القِطع الاثرية اليونانية والرومانية والمصرية، التي جمعتُها، وأنَّ ما قرأته عن الاركيولوجيا في نهاية الامر أكثر مما قرأته عن علم النفس".
من منا كان يتصور ذلك؟ وكم بيننا، من منتجي الثقافة، ضحّى بوقته وصحته وماله من أجل الاحاطة ولو بشيء خارج تخصصه؟، في حين الحقيقة تقول بأنَّ جوهر الشِّعر لا يكمن في عدد ما نقرأ من دواوين الشعر، ولا في عدد الروايات، هناك، عالمٌ كامن خارج هذه وتلك. في كتب التاريخ واللغة والفكر والفلسفة والعلوم الاخرى ما يغنينا عن الشِّعر والرواية. في رسالة قصيرة جداً يكتب تسيفاييج الى فرويد: "إنني أنتمي إليك".
هل نذكّر بأنَّ فرويد كان أخطر قارئ لدوستويفسكي؟ وانَّ علم النفس بأجمعه لم يكن على ما هو عليه لولا (الجريمة والعقاب) و(الاخوة كارموزوف) ألم يقل هو: "إنّ دوستويفسكي هو أوّلُ إنسان أعطانا فكرةً عن الناس، الذين هم نحن".