د. رسول محمد رسول
في غضون عام 1992، بدأت علاقتي وطيدة أكثر مع الفلسفة الألمانية من حيث التخصص الأكاديمي بعد أن درستها في مرحلة البكالوريوس في (قسم الفلسفة/ كلية الآداب - جامعة بغداد) خلال ثمانينيات القرن العشرين؛ فبينما كنت أحث الخطى نحو دراسة الماجستير في الفلسفة الحديثة، اقترح عليَّ أستاذنا الراحل مدني صالح (1932 - 2007) الدخول في معترك الفلسفة الألمانية الحديثة بسبب ندرة التخصُّص بها في العراق، بل الوطن العربي، وثراء التجربة الألمانية في الفلسفة.
لقد تأمَّلتُ مسألة ندرة التخصُّص في هذا المجال، ففي حينها لم يكن في العراق منْ هو متخصِّص بالفلسفة الألمانية سوى أستاذنا الدكتور قيس هادي أحمد الذي أشرف تالياً على أطروحتي في الماجستير والدكتوراه، وهو الذي سبق وتخصَّص بالفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز 1898 – 1979 في كتابه (الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز)، بعد سلفه الراحل والوحيد أستاذنا الكبير الدكتور ياسين خليل (1934 – 1986)،الذي سبق أن تخصَّص باللغة والمنطق في الفلسفة الألمانية، ووضع باقة رائعة من المؤلَّفات في مجالها.
لقد استمرت ندرة التخصُّص في هذا المجال حتى تزحزحت بتجربتي بين الأعوام 1993 - 1997 مع الفلسفة الألمانية في القرن الثامن والتاسع عشر. ففي مرحلة الماجستير درستُ نظرية المعرفة في فلسفة كانط من خلال مفهوم "المعرفة النقدية"، وفي مرحلة الدكتوراه درستُ الأنظمة الميتافيزيائية في القرن التاسع عشر من خلال مفهوم "الحضور والتمركز".
إلا أنني لم أقف عند ذلك الحد فقد مضيت عاشقاً لمسارات الفلسفة الألمانية في كل تحوّلاتها لأنني معها غالباً ما أشعر بالجد والنشاط والحيوية والتشبُّث بالعمق، فقد كان العيش وما يزال مع نصوص الفلسفة الألمانية جميلاً ومنعشاً للتأمُّل والقراءة المضاعفة التي تمنحك إبحاراً دافئاً في شواطئها، وعوماً مجدياً في أعماقها فاللآلئ توجد في الأعماق كما كان يقول فريدريش نيتشه.
بعد انتهائي من كتابة أطروحتي للماجستير عن نظرية كانط في المعرفة منتصف عام 1994، خرجت أتأمَّل بعمق أكثر ما يميز الفلسفة الألمانية في ضوء تجارب فلاسفتها الكبار دائماً.
كانت كلمة "نقد" تتراءى لي كمفهوم مركزي في الخطاب الفلسفي الألماني، ولذلك ظلت ترافقني وأنا أتوجَّه شطر البحث في الدكتوراه لأبقى بين فيافي الفلسفة الألمانية لكني مددتُ اهتمامي إلى فلاسفة آخرين جاؤوا بعد كانط من دون أن يتمكَّنوا من مغادرة عباءته النقدية وافرة الدفء.
خلال سنوات طويلة، كنت جاداً في قراءة كتب النقد الأدبي، وحضور ندوات ومؤتمرات عن النقد الأدبي في بغداد، خصوصاً وأن جهابذة كبارا من نقادنا كانوا يجتهدون في توسيع رقعة الدرس النقدي في الجماليات الأدبية والتشكيلية والمسرحية، أما "النقد الفكري أو الفلسفي" فكانت له صولاته في الدراسات الفكرية والفلسفية لكنه الأقل انتشاراً مقارنة بصولات النقد الأدبي والجمالي.
في كل هذه الأجواء كان النقد حكم قيمة، مفاضلة، قراءة تتوخّى إصدار حكم في نص أو تجربة ما، أما النَّقد الفكري فكانت له أمزجته الأخرى، لكن ارتمائي الجميل في عالم الفلسفة الألمانية من خلال المدفئ الكانطي، وعبر تجربة الماجستير، وكذلك تجربة الدكتوراه، كان قد أخرجني من فضاء النقد بوصفه إصدار حكم قيمة صوب فضاء مختلف تماماً، فكانط، وهو يهمُّ ببناء نظريته في المعرفة، ركنَ إلى مفهمة مختلفة لمعنى النقد، وتحديداً النقد الفلسفي.