بريد الطّفولة

ثقافة 2021/02/24
...

  رعـد فاضل
في ما سبق كتبت أشياء كثيرة متباينة ومتنوعة عن الطفولة، منها ما هو حقيقيّ كما ذكريات، ومنها ما هو كذلك غير أنه مشوب بحلمية قد تكون وقعت حقاً أو لم تقع، وبتعبير آخر كأنما كنت كمن يتذكر حالماً لا متذكراً حسب، كمن يكتب أحلاماً كان يأمل لو أنها كانت قد وقعت فعلا، وأيضاً كمن يحلم متذكراً وأنا مدرك تماماً لتلك العلاقة ((العميقة العظيمة التي تصل التأملاتِ الشاعرية الشاردة بتأملات الطفولة)). 
 
الكتابة عن الطفولة أبداً ليست كما الحديث عنها، ففي الكتابة هنالك متَّسعات من الوقت والتفكّر والتأمّل، هنالك الخلْوة والعزلة الكاملتان، هنالك الحلميّة الأدبيّة أي هنالك رويَّةٌ كثيفة حادّةُ البصيرة ثاقِبة النّظر في التذكّر والتَّحلُّم، هنالك قصديّة عالية في اختيار ما نستدعي من ذكريات الطّفولة، هنالك انتقاء لثيمات ما دون غيرها/ أمّا في الحديث فهنالك شبه فِطريّة وبراءة في الاستدعاء، وغالباً مهما كانت ذاكرة المتذكِّر حديديّة وقدرتُه الحلميّة عاليةً على انتقاء ما يريد من مُستدعَيات طفولته لن يضاهي حديثُه بأيّما شكل من الأشكال استدعائه لها بالكتابة. يقول شاعر فرنسيّ: 
 
في طفولتي طفولةٌ حادّة كالكحول،                                                                    
كنتُ أجلس في طرقات الليلِ                                                                           
 كنتُ أسمع خطاب النّجومِ،                                                                             
خطابَ الشّجرة.                                                                                            
الآن تُثلِج اللامبالاةُ مساءَ روحي.                   
                                                    
الطفولة ليست الماضي، إنّها الصّور المُتذكَّرة المحنونُ إليها من ذاك الماضي لأنّ لهذا الماضي الذي ظننّاه ((ميّتاً فينا مستقبلاً، مستقبلَ الصّور الحيّة)) الصّور التي تأبّت على أن تكون حبيسة سرداب الذاكرة، الصّور التي غالباً ما أتخيّلها شبه غافيةٍ في كراسٍ هزّازة بين أعيننا نحن المتعلّقين بــخطاب النّجوم، وخطاب الشّجرة، بانتظار أن نوقظها. الصّور الطّفليّة بعامة نوعان: الأوّل هو تلك الصّور البريئة المحنون إليها التي كلّما استدعيناها تُشحن بطاقة جديدة من حنيننا إليها، فنستدعيها ثانية وثالثة...، فكأنما التذكّر هنا تحويلٌ لـ((هذا الشّبح النادر))، أعني هذه الصّور، إلى وقائع حقيقيّة عِيشت فعلاً ونريد منها على ما يبدو أن تعاش على الدّوام عِبر هذه الاستدعاءات. 
أمّا النّوع الثاني فهو تلك الصّور القاسية المؤلمة الممِضّة التي تُستدعى أحياناً دون رغبة منّا في تذكّرها واستدعائها، سوى ما قد يذكّرنا بها كأنْ يكون حدثاً بالمصادفة أو حديثاً عابراً ما يحيل إليها. ألا يجدر إذاً، في الأقلّ من جهتي وبعيداً عن التّعميم، أن أجزم بأنّ لي طفولاتٍ لا طفولة واحدة ((في طفولتي طفولةٌ حادّة كالكحول)).   
إذا ما سلّمنا بأنّ في كينونة كلّ شاعر طفلاً حالماً، سنسلّم تلقائيّاً بأنّ ((عزلة الطفل هي أكثر سريةً من عزلة الرجل))، من جهة أنّ الشّاعر -كونه رجُلاً - راشدٌ مليء بالخبرات ومحشوٌّ بالمعارف، إذاً من يحلم على وفق هذا شعريّاً وينعزل عما حولَه ليس الشّاعر- الرجلَ نفسَه، وإنّما الطفل الحالم اللابث فيه. 
وأظنّ أننا عندما سنعيش عزلة شيخوختنا سنتطابق مع عزلة طفولتنا، ألم يَرَ علم النّفس بما معناه أنّ الشيخ ليس هو إلّا ذاك الطفل المنعزل الحالمَ الذي فيه؟.
 كتب جان فولين: ((بينما في حقول طفولته الأزليّة يتنزّه الشّاعر الذي لا يريدُ أن ينسى شيئاً)).
أن أتذكّر صوراً من الطفولة يعني أنني إنّما أحاول أن أعيشها ثانية، ولكن بعيداً عن كلّ ما من شأنه أن يعكّر صفو زمن هذا العيش، يعني أن أنعزل أكثرَ قبل أن أتذكّر، أكونَ وحيداً تماماً. 
دائماً ما يبدو لي هذا النوع من التذكّر نوعاً من النقاهة الصّافية النقية المعقَّمة بالطفولة ضدّ أمراض ما حولي، ضدّ رَشَدي وخبرتي نفسيهما. الذكريات يجب أن لا يُسمح بتدميرها. الذكريات يجب أن تُصان لأنّ حاضر حامل الذّكريات ومستقبلَه دائماً أقلّ لطافةً من ماضيه، إن لم أقل أكثر بشاعة وتعباً. الذكريات دائماً طفليّة قياساً بزمن حاملها وتذكُّرها. الذكريات، حتّى الأليمة منها؛ أشباح لطيفةٌ تراودنا دائماً. يقول عنترة بن شدّاد: 
 
ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ منّي وبِيضُ الهند تقطرُ من دمي. 
 
أيّة صورتين نافرتين متقابلتين هاتين؛ صورة بهيّة عذبة مُتذكَّرة مستدعاة كما ((شبح نادر))، إنّها صورة ذكرى حُـبيَّـةٍ صافية في ظلّ حاضرِ صورةٍ عُنفيّة ملؤها القسوة والكراهيةُ من رماح وسيوف ودماء. 
((الذكرى الصّافية ليس لها تاريخ)) لأنّ لحظة قول هذا البيت إن كانت في أثناء معمعة الصّورة الثانية (الحاضرة بالنسبة إلى الصّورة الحُبيّة)، فهذا يعني أنّ قائله كان في لحظة صفاء تامّة منفصلة عن لحظة البشاعة التي كان يعيشها آنَ قوله هذا، كان في لحظة تخريفٍ كونه كان مفتوناً بصورة الذكرى التي فصلته تماماً عن لجّة لحظة القول (صورة معمعة الحرب)، كان حالماً طفليّاً منعزلاً ذلك أنّ ((للدخول في الزمن الخرافيّ يجب أن يكون المرء كطفل حالم)). 
غالباً، إن لم أقل دائماً، ما يشوب التّذكّر شيء من الكآبة وتزداد حدّة هذا الشَّوْب كلّما تقدّم المتذكِّر في الحلم والسنّ. يبدو مردّ ذلك إلى احساسه بأنّ المسافة التي بينه وبين طفولته تتّسع وتبعد عنه أكثر فأكثر، إنّه يُدفع عنوةً إلى: أن ينسى. كلّ ذكرى إذاً محكومةٌ بصرامة زمن استعادتها. وكلّما تأجّجت كآبة الحاضر (حاضر المتذكِّر) عمقاً وشدّة تأجّجت معها حساسيّته رغبةً في التذكّر وشغفاً بالراحة والطمأنينة، إذ ((من دون مادة الكآبة هذه، تكون الراحة فارغة)) لذا وحده الضّالع في أحلامه من يكون أكثر مناعةً ضدّ هذا النّسيان. ذلك هو مبدأ أن أكون حالماً، أن أكون طاعناً في هذا التذكّر المتأمِّل، لا في السّن.